
*منقول عن منصة جمار
الخضوع للمعايير.. من الدكسون الى “المنحف” الى “النحت”
إيهاب شغيدل
06 حزيران 2025
البداية كانت في “الدكسن” للحصول على قوام مكتنز، وجاء بعدها “المنحف” للتخلص من الوزن الزائد، وأخيراً وصل الأمر للنحت للحصول على جسد جديد.. قصة طويلة لامرأة خضعت لكل هذه المعايير وجربت الحبوب والشرابات والعمليات…
ربيع العام 2020 لم يكن سهلاً على الجميع مع انتشار وباء كوفيد في العالم والعراق ليس استثناء.
ولكن بالنسبة لضحى (42 عاماً) من بغداد، زاد الهول العام تشخّيصها بورم من الحجم المتوسط أسفل الحنجرة، والذي سرعان ما تمدد إلى ظهرها.
عند المعاينة الأولى لم يشخص الأطباء مرضها كما ينبغي، إلا أنها ومع توالي بيع قطع ذهبها وكل ما “عدنا وما عدنا” تشخص مرضها، ومعه بدأت برحلة علاج أسهمت علاقات زوجها الشخصية في حصولها على فرصة إجراء فحوصات وعمليات جراحية إضافية في مستشفيات القطاع الخاص التي تمنح متوسطي الدخل والفقراء فرص نجاة.
رحلة العلاج فتحت سجلات تاريخ تعاطي ضحى مع جسدها لـ”تقوميه” حسب الحاجة والمعايير السائدة والمطلوبة في كل مرحلة عايشتها من جعله مكتنزاً في مراهقتها، إلى تنحيفه وثم نحته في العقود التالية. تحولات فرضتها هي على جسدها، وتعتقد أنها لربما ساهمت في إصابته بسرطان الغدة الذي تمدد إلى أماكن أخرى.
سنعود مع ضحى في الزمن لنواكب مسارها هذا الذي تشاركه فيه آلاف العراقيات، حيث يفرضن على أجسادهن تحولات قاسية للحصول على صورة الجسد “الشائعة” على حساب صحتهن ودون التفكير بالثمن النفسي والجسدي والمادي. كيف ولماذا ومن المسؤول؟
“الدكسن” بديل الطعام في الحصار
نشأت ضحى في مدينة الحبيبية شرق بغداد أيام الحصار الذي كان قد ضيق موائد الأسر العراقية متوسطة ومحدودة الدخل؛ مضايقة وصلت حدّ الجوع عند بعض الفئات حيث أصبحت أجساد غالبية العراقيين تميل للنحافة المفرطة نتيجة لسوء التغذية. انخفضت في ذلك الوقت نسبة السعرات الحرارية للفرد العراقي من 3.120 كيلو للفرد يومياً قبل الحصار إلى 1.093 كيلو للفرد يومياً في ظل الحصار خلال العامين 1994 و1995 على وجه الخصوص.
أثّر انخفاض الوزن جراء الحصار والجوع على نظرة الأفراد لأنفسهم، ومنهم كانت ضحى؛ الفتاة المراهقة التي “لجأت” ومنذ جيل مبكرة للعلاجات والوصفات المحلية للتحكم بمظهرها وجعل جسدها ووجنتيها مكتنزة.
“جنت اريد اصير سمينة، بطلت من المدرسة بسبب شكلي، طويلة ورفيعة جني خشبة على كولت المعلمة، جنت كلش ضعيفة، جان اسمي “المسلوعة”، جنت معجبة بشكل ايناس طالب، حاولت اصير مثلها، كانت خدودها بذاك الوقت حلم كل البنات… كان وزني اقل من خمسين كيلو، وجنت احتاج حل لهذا الضعف، كان الدكسون بدة ينتشر بين البنات، بدون علم أمي، قررت أجمع من مصروفي اليومي من أجل شرائه”.
انتشر في العراق في ذلك الوقت استخدام -دون رقابة- لحبوب “الديكسون” كمادة مسمنة وفاتحة للشهية، عرف محلياً وقتها بـــ “الدكسن”، وهي حبوب تحتوي على مادة الديكساميتازون الفعالة التي تنتمي إلى عائلة الستيرويدات التي تستخدم لعلاج عدد من الأمراض والعوارض، مثل الحساسية والروماتيزم وأمراض المناعة الذاتية وغيرها، وتخفيف أعراض الأمراض الجلدية والتحسسية والجهاز التنفسي.
ولكن لاستخدام الديكسون لفترات طويلة أعراض جانبية، منها ضيق وضعف في العضلات، عدم وضوح في الرؤية، الاكتئاب الشديد، ارتفاع ضغط الدم، وتغير في نبضات القلب.
أما زيادة الوزن فهي تعتبر طبياً إحدى الأعراض الجانبية للدواء، وذلك كونها تؤدي إلى احتباس السوائل في الجسم وزيادة الشهية وتغير طريقة التمثيل الغذائي وطريقة تخزين الدهون في الجسم، ما يؤدي إلى ارتفاع في الوزن.
كان الدواء السحري يأتي كسائل في علب زجاجية ويعطى عادة للأطفال عند التحسس، وكذلك على شكل حبوب طبية، ثم سرعان ما بات يُنتج على شكل كبسولات.
ما تزال ضحى تتذكر جيداً شكل ورائحة وطعم الديكسون.
“بالبداية كان يجي شراب بشيشة، وبعدين صار كبسول، واني اخذته بالشكلين”. كانت الكبسولات تشبه الجص شكلاً ورائحة، لونه وردي، وموضوع في علبة زجاج “فيها لصقة صفرة وقبغ اصفر ومكتوب عليها دكسون”. لاحقاً بات يُخلط مع الأعشاب ويباع في السوق.
كما تتذكر ضحى لماذا بدأت بأخذ الديسكن وكيف أثر على جسدها في ذلك الوقت.
“صراحة بعد أيام (من بدء أخذ الديكسن) جسمي خمل، فقدت النشاط، صرت عبارة عن شخص يأكل وينام”، تستذكر كيف كانت تمر أيام لا ترى ضحى فيها من النهار إلا ساعات قليلة، فيما اضطرت عائلتها أن تزيد من نصيب ضحى من الطعام حيث يكفي لشخصين أو ثلاث.
“بس بديت احس بالتغير، جسمي بدا يسمن ووجهي هم”.
بعد أشهر قليلة على أخذ الجرعات الاولى ذهبت ضحى لمناسبة اجتماعية شعرت فيها أنها كانت محط أنظار الأقرباء والزوار، حيث ظهر شكلها أكثر “أنوثة وامتلاء” مثلما تصف نفسها، قبل أن تضيف أنها لم تكن بدينة وإنما باتت فاتنة وملفتة للأنظار؛ علماً أن السمنة كانت دلالة على الخير والوفرة في وقت الحصار.
عالجت ضحى غياب الفاكهة والسكريات والبروتينات بالديكسون، وكان لها ما أرادت، حيث وصلت للجسم المثالي بنظرها في ذلك الوقت. لذا قررت البدء بتخفيف جرعات الديكسون وبعد حوالي عام قطعته نهائياً.
مع قطع الديكسون بدأ جسدها يعود إلى وضعه الطبيعي وقوامه النحيف. انتبهت ضحى لذلك في بداية عام 2003 فعادت لشراء مادتها السحرية. لكن سرعان ما حملت تغييرات ما بعد 2003 مواد جديدة “اغلبها ما كانت متوفرة.. اشتريت حبوب ومسمنات ومشهيات، بعد فترة رجعت على الجسم الي اريده”.
في منتصف عام 2004 تزوجت ضحى، كانت وقتها في قمة توهجها حيث كانت كما تصف “خدودي حمر، وجسمي ممتلي، اغلب البنات بذيج الفترة كانن ضعيفات، جنت مميزة”، ردحت الشابات في عرس ضحى في احدى الشوارع الضيقة شرق بغداد “خدها طماطة ولا تكول مدكسنة”، وهي أحد الكولات التي كانت تطلقها النسوة في ذلك الوقت على العروس التي تميل وجناتها للامتلاء والاحمرار، مثبتين للعريس واهله ان ذلك الامتلاء سببه الخير والرفاهية وليست مادة “الدكسون”.
لما صار “الجمال بالضعف مو بالسمن“
في العقد التالي بعد زواجها ومع تكرر حملها والولادة والتغييرات الطبيعية مع التقدم في العمر، بدأت تعاني من السمنة المفرطة حيث بلغ وزنها 102 كيلو، ومع الأيام بدأت تفقد قدرتها على السير لمسافات رغم أن عمرها لم يكن يتجاوز الـ35 عاماً.
“بـ 2016 هيج بديت انتبه لنفسي، انتبه اني كلش سمينة، وقتها بلش الانترنت ينتشر، وصار الجمال بالضعف مو بالسمن”، مع تغير المعيار الجمالي والاتجاه نحو النحافة، واكبت ضحى ذلك من أجل أن يبقى جسدها ضمن المنظور الجمالي الاجتماعي المقبول، “صرت وين ما اروح الناس تنتقدني، ضحى سمينة ضحى سمينة، وبدت عندي اوجاع المفاصل بسبب السمن، وقررت اضعف”.
بدأت ضحى في نهاية 2016 رحلتها العكسية في خسارة الوزن، انطلقت من الرجيم وتقليل الأكل، الذي بات صعباً جداً بعد الاعتماد على الديكسون لفترة طويلة، تشرح ضحى”اني متعودة من وقت الدكسن على اكل اهواي، مو مال بليلة ويوم تجي تقلل، تعودت نظام، اذا اجوع اكوم ابجي”.
مع عدم قدرتها على اتباع حمية صحية وتقليل وجباتها اليومية، “لجأت” ضحى إلى المنحفات، وتحديداً لمكمل غذائي اسمه “ليبو 6” (أو بنسخته المحدثة “لايبو 6”) والذي يُروج له بأنه “حارق قوي للدهون”، أملاً بالتخلص من آثار الديكسون الذي تناولت منه جرع كبيرة نهاية التسعينيات.
وكما هو الحال مع الديكسون استهلكت ضحى “الليبو 6” من دون استشارة طبية، ودون أن تشتريها من الصيدلية.
“هو موديل شنو ينتشر نشتري”. من نفس الأماكن التي باعتها الديكسون قبل عقد، اشترت ضحى المنحفات التي عادة ما توفرها محلات الكوزمتيك والتجميل. من السوق من “محل يبيع عطور وكريمات وهيج”، كانت تحصل على المنحفات بعلب بيضاء دون أي لوغو لشركة أو تعليمات للاستعمال أو العوارض الجانبية.
“من بديت اخذ منحفات ما جنت اشعر بالجوع، وقلت شهيتي على الاكل، ساعدتني انزل وزني، بس هم ما وصلت للي اريده”، لذلك لجأت إلى حمية (رجيم) قاسية ففقدت حوالي 15 كيلو من وزنها في غضون تسعة أشهر، مع ذلك ظلت تشعر بأن ملامحها تتسم بالبدانة. لأسباب اجتماعية وظروف حياتية عديدة منها اهتمامها بالأطفال، لم تستمر ضحى بالرجيم، ليعاود وزنها الصعود إلى مئة كيلو، فاتخذت قرارها بأن “أنهي الموضوع وأتخلص من هذا الوزن” تقول.
من الهوس بالرشاقة إلى غرفة العمليات
لم تكن الحالة الاقتصادية لضحى وزوجها ميسورة، فزوجها يعمل منتسباً في أحد التشكيلات العسكرية وراتبه بالكاد يسد حاجة المنزل وأبنائهم الخمسة لنحو عشرين يوماً. ومع أنها تصف وضعهم على أنه “على كد الحال”، إلا أن ذلك لم يخفف رغبتها المتزايدة في إجراء عملية قص معدة أو شفط دهون؛ وهي عمليات باتت شائعة.
“من جنت شابة تعلمت خياطة بمعمل، ومن شفت وضعنا ما يساعد اجمع فلوس العملية، قررت اشتري مكينة خياطة، هم تساعدني بالبيت، وهم ادبر فلوس العملية، لانه مستحيل اطلب من زوجي هيج مبلغ، اصلا احس عيب اكله، شنو اني عايفة جهالي واحتياجاتهم ومهتمة بنفسي”.
بدأت ضحى بالعمل بالخياطة في منزلها بعد إنجاز مهام وواجبات البيت، وفي الوقت ذاته دربت ابنتها البكر على الخياطة، فتمكنتا خلال ستة أشهر من أن يشيع صيتهما كخياطات ماهرات بين جيرانها في منطقة الحسينية شمال بغداد، وبين الأقرباء ايضاً، “بحيث المكينة صغيرة كامت ما تساعدني، جبت مكينة صناعية، وكان الشغل خير من الله”. بهذه الطريقة استطاعت تجميع المال الذي مكّنها من إجراء العملية.
“صار عندي هوس بالرشاقة، الموضوع تعبني، اشتغل ليل نهار حتى اطلع فلوس العملية، ما جان عندي خيار العملية لو اسويها لو اسويها”.
في مطلع العام 2019 سافرت صحى برفقة ابنتها وزوجها إلى بيروت، بعد أن أنجزت كافة الإجراءات الروتينية مع مستشفى الجامعة الأمركية في عاصمة لبنان من اجل الوصول للهدف، في يوم اعتبرته “اسعد يوم بحياتي”، في رحلة سوف تستغرق حوالي أربع أسابيع.
في اليوم التالي لوصولها بدأت بمراجعة المستشفى والتقت بالطبيب المختص الذي سيشرف على العملية وأجرت الفحوصات اللازمة.
“كنت جدا سعيدة، طايرة من الفرح، كان وزني وقتها 97 كيلو، والطبيب كلي بشهرين راح يوصل وزني 65، جنت فرحانة وعندي امل، اتفقنا على كلشي، وزوجي وبنتي وياي، طلعنا وتونسنا، ورة كم يوم سوينا العملية”.
بعدها بأيام دخلت ضحى صالة العمليات من أجل اجراء عملية قصّ معدة.
خلال العملية التي استمرت قرابة الأربع ساعات، قرر الطبيب أن يقتطع حوالي 75 بالمئة من معدتها، ثم مكثت في المستشفى قرابة الثلاثة أسابيع للتعافي، لتعود بعدها إلى بغداد وهي في قمة فرحها وزهوها بـ”جسدها الجديد”. بيد أن العملية وما تتطلبه من راحة تامة ونظام غذائي حال دون عودتها للعمل، حيث احتاجت لستة أشهر بعد العملية ليستقر جسدها في قوامه، حيث بدت ضحى رشيقة بقوام عصري يتناسب مع الموضة.
“حوالي 6 أشهر التزمت بالاكل حسب تعليمات الطبيب، بس بصراحة جنت أحس اكو شيء غلط”.
مع حلول نهاية 2019، بعد أشهر من إجراء العملية، بدأت تظهر ملامح التعب على ضحى. وكان أن انتبهت مصادفة ذات يوم أثناء تمشيط شعرها إلى تساقط خصلة منه بين أصابعها، وما أن دققت برأسها حتى اكتشفت فراغات لم تكن تعلم كنهها بفروة شعرها. “قال الطبيب بوقتها نقص فيتامينات ونقص بروتين بسبب قلة الاكل، فرجعت شوية اكل اكثر بس مو بشكل طبيعي”.
ثم بدأت تتكتشف لضحى أن المشكلة أكثر خطورة هذه المرة، فقد بدأت تشعر بكتلة غريبة في حنجرتها، ثم سرعان ما ظهرت اخرى أسفل الظهر، وهكذا بدأت رحلة التشافي من الأورام.
مخاطر غير مدروسة.. لماذا؟
رافقت ضحى التحول في معايير الجمالي، محاولة جاهدة أن تناسب الموضة في عصر البدانة والنحافة أيضاً، واستطاعت أن تظهر نفسها ضمن متطلبات كل حقبة عايشتها. لكن تلك الرحلة من الدكسون إلى الرجيم كانت محفوفة بالمخاطر، كونها تعاطت أدوية دون رقابة طبية.
يربط بعض الأطباء والصيادلة بين أنواع معينة من السرطانات وبين الادوية والعلاجات غير المرخصة، حيث إن النسب غير المحسوبة والمراقبة في هذه المواد قد تسبب الفشل الأيضي وخمول الغدة الدرقية؛ وبعض أنواع السرطانات منها سرطانات الغدد الذي أصيبت به ضحى؛ مع ذلك قد لا تكون هذه نتيجة حتمية لكنه من الأسباب الشائعة والمعروفة طبياً.
لطالما كانت ضحى -ونساء أخريات مثلها- على علاقة مضطربة مع جسدها. لم تتقبله نحيفاً ولم تتقبله ممتلأً. كانت علاقة ملتبسة مليئة بالإجراءات في رحلة البحث عن الكمال، وحسب المعيار الجمالي الشائع اجتماعياً.
لكن في مراجعة ذاتية تقول “اتوقع اسوء شيء سويته ما حبيت نفسي”.
قد يكون الضغط الاجتماعي في الواقع وفي العالم الافتراضي هو من يدفع ببعض النساء نحو خيارات تعسفية بعض الأحيان تجاه أجسادهن، لكن غالبيتهن -ومنهن ضحى- غير أكيدات فيما إذا فعلن ذلك لأجل الآخرين ولتحسين مظهرها الاجتماعي أم نتيجة قناعاتهن الخاصة؟
ما تيقنه ضحى أنها تحب أن ترى نفسها جميلة وحلوة.
بعد أربع سنوات من الصراع مع المرض، حين تسرح في ذهنها، تفكر ضحى مليا في حياتها، “مرات افكر اكول هسة اني متعذبة، منو يباوع لجسم ضعيف لو سمين!’ مرات اقسي على نفسي، واكول اني السبب وهاي عقوبة من الله، ومرات اكول لا هذا قدري”.