مقالات

اليمين والمانوسفير العراقيان : وحدة ضد النساء 

اليمين والمانوسفير العراقيان: وحدة ضد النساء 

بلسم مصطفى و ريم عبد

25 يناير 2024

منذ تشكّله وحتّى تشظيه، هيمنت أفكار كراهية النساء على اليمين العراقي بأشكاله المتعددة.. هنا تحليل نقدي لظاهرة اليمين والمانوسفير وتحولاتهما من خلال تجارب ضحاياهما من النساء والرجال.

في حزيران 2021، نشرت الكاتبة الأولى لهذا المقال تغريدة على منصة تويتر (أكس حالياً) تمتدح فيها شجاعة والدة إيهاب الوزني، بعد أن خرجت بمفردها إلى الشارع وسط الحضور الأمني الذكوري، لتطالب بالمساءلة وتحقيق العدالة لاغتيال ابنها، واصفةً فعلها بأنه “فعل نسويّ” في جوهره لأنه “صرخة ضد الظلم”. كان الهدف بريئاً يتمثل في محاولة إزالة الوصمة الملتصقة بمفردة النسوية من خلال الإشارة إلى أنموذجٍ لأم وامرأة ترتدي الحجاب والعباءة وتناضل لاستعادة حق فقيدها المسلوب، للتغلب على شيطنة النسوية المنتشرة على نحوٍ واسع في أنها فكر غربي مستورد يتنافى مع العادات والتقاليد المحلية. لاقت التغريدة تفاعلاً إيجابياً، لكن في اليوم التالي، تلقت الكاتبة رسائل من مجموعة من الصديقات يحذرنها من أن صفحة يُطلق عليها بالإنجليزية اسم “رجال بلا حدود” قامت بعمل “سكرين شوت” للتغريدة ونشرها مرفقةً باتهامات نابعة من رفض القائمين على الصفحة بربط فكرة النسوية -وهي بنظرهم مفهوم فاسد أخلاقياً- بامرأة نبيلة تُجسد كل معاني الشرف التي تنفيها النسوية، على حد وصفهم. فتح المنشور المجال لتعليقات فجة ومسيئة لم يتوانَ أصحابها عن التطاول على شخص الكاتبة.

كانت التجربة مؤذية، غير أن دعم عدد من الزميلات والصديقات من خلال محاولاتهن الحثيثة للتبليغ على الصفحة والمنشور، أو من خلال التواصل مع الشخص القائم عليها، كانت قد خفّفت من وقع ذلك الأذى النفسي. إلا أن أياً من تلك المحاولات لم تُجدِ نفعاً وبقي المنشور وظلت الصفحة مستمرة بنهجها اللاأخلاقي والمسيء للنساء عموماً، وللنسويات خصوصاً. 

وقتها، كان ظني (الكاتبة الأولى للمقال)، أن وجود تلك الصفحة العراقية عشوائيّ، ولم يخطر على بالي حينها أنها مجرد نقطة في بحر ظاهرة عالمية وإقليمية ومحلية تتمحور حول مجاميع من شبكات رقمية يديرها رجال باتت تُعرف باسم ظاهرة “المانوسفير”، وتندرج ضمنها مجموعات مختلفة على تنوع أيديولوجياتها، غير أنها تشترك بفكرة أو خطاب واحد: الكراهية الشديدة للنساء ومعارضة أي حديث رائج عن تحرير المرأة والتوعية بحقوقها. ليس ذلك فحسب، بل إن الكثير ممن ينتمي لها يمارس أذىً حقيقياً تجاه النساء، وأن ما حدث لي وقتها كان غيضاً من فيض. فالكاتبة الثانية كانت قد تعرضت هي الأخرى للسب والشتم والتنمر وغيرها من الممارسات اللاأخلاقية على مدار السنوات السابقة بسبب آرائها التي لا تروق لتلك الجماعات المختلفة إلى الحد الذي وصل بهم إلى محاولات “تهكير” حسابها على الفيس بوك، وعليه اتخذت قرار الانسحاب من الحضور العلني في مواقع التواصل الاجتماعي وبشكلٍ نهائيّ. 

محلياً، تعود جذور هذه الظاهرة إلى مجاميع كانت تطلق على نفسها لقب “اليمين العراقي” بدأت بالتشكل والظهور منذ عام 2014، وبمرور السنوات، تفتّت ما بدا أنها كتلة متجانسة إلى فئات عدّة، حتى بدأ ذلك اللقب الأولي بالزوال تدريجياً وحلت محله تسميات جديدة ظلت محافظة على السلوك والأهداف المشتركة نفسها. 

نحاول في هذا المقال تقديم تحليل نقديّ لهذه الظاهرة وتحوّلاتها، مركزين على تجارب ضحاياها من نساءٍ ورجال، عن طريق مقابلات عدّة أجريناها معهم/ن، بالإضافة إلى ردود وصلتنا من أشخاص تعاملوا معهم بعد أن نشرنا سؤالاً على مواقع السوشيال ميديا عمّن كان قد تعرّض لهم/ن في وقتٍ من الأوقات. بالإضافة للمقابلات، اعتمدنا على ملاحظاتٍ وبياناتٍ قمنا بجمعها من خلال مراقبة صفحات وحسابات ومجاميع على مواقع الانستغرام وفيس بوك وأكس وتيلغرام لعدة أشهر. وللحفاظ على السلامة الشخصية للمساهمات والمساهمين في هذا المقال، ارتأينا عدم ذكر أي اسم صريح أو مشاركة عناوين تلك الصفحات، والاستعاضة بأسماء مستعارة للإشارة الى من حاورناهم.  

ما يهمنا هو أن يعي القرّاء حقيقة مفادها أن الاختلاف الأيديولوجي لا يبرر على الإطلاق أي إساءة أو تهديد أو إلحاق أذى شخصي بالآخرين، ممكن أن يدمر حياتهم الى الأبد، فيما يعيش المسيء حياته بالطول والعرض غير عابئ بسلامة وكرامة من يتعامل معهم. 

قبل تناول الظاهرة محلياً، من الضروري تقديم استعراض سريع لملامحها في العالم الغربي فهو يمثل منبعها ومنه انتقلت إلى العالم العربي، واستلهمت أفكارها وسلوكياتها وممارساتها. 

مجاميع اليمين المتطرف والمانوسفير وتدرجاتهما 

بالرغم من وجود تداخل ما بين مجاميع اليمين المتطرف والمانوسفير (Manosphere)، إلا أنهما يتميزان عن بعضيهما. بدايةً، من أبرز نقاط التشابه بينهما هي لا مركزيتهما والتناقضات العديدة في أيديولوجياتهما. فالمجاميع المنتمية الى أقصى اليمين أو اليمين المتطرف كانت قد شكلت حراكاً في الغرب منذ تسعينات القرن الماضي يتبنى أيديولوجية التفوق العرقي أو التعصب الأبيض، إلا أنها بدأت بالبروز والتبلور أكثر مع تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة والإنترنت.i فتشكلت مجاميع رقمية منضوية تحت مظلة اليمين المتطرف، أبرزها تلك التي باتت تُعرف باليمين البديل وهي الأخرى تضم مجاميع غير متماسكة ممّن يتبنون الأيديولوجية القومية لسيادة العرق الأبيض ويعادون السامية والمهاجرين، خصوصاً المسلمين، ومجاميع الفاشيين والنازيين الجدد ومنكري المحرقة ومن يؤمنون بنظرية المؤامرة. لم تكن أفكار اليمين البديل تلك مجرد حبرٍ على ورق أو حبيسةً للمنتديات والصفحات الرقمية، بل أنها تجسدت مادياً على أرض الواقع على شكل هجمات عنف وكراهية وإرهاب، لعلّ أبرزها كان الهجوم الإرهابي على مسجدين في مدينة كرايستشيرش في نيوزلندا عام 2019. 

عمل فني: ميس السراي

تتقاطع جماعات المانوسفير، وهي شبكات رقمية يديرها رجال وتكون غير منظمة تنتشر في المساحات الرقمية المختلفة، يجري فيها التعبير عن أنماطٍ من الذكورة المهيمنة والتقليدية، مع اليمين البديل، في كراهيتها الشديدة للنساء وعدائها للنسوية. هذا بالإضافة الى استلهام واقتباس أفكار مرتبطة بأيديولوجيات اليمين المتطرف. وصُنّف المانوسفير الى عدة ثقافات فرعية منها: نشطاء حقوق الرجال، والانفصاليون الذكوريون المعروفون بتسمية (MGTOW) “رجال يسيرون بطريقتهم الخاصة”، فنانو الإغواء (PUA) الذين يعتمدون على تقنيات إغواء ميسوجينية (كارهة للنساء)، والإنسيل (Incel)(عزوبة غير طواعية)، وغيرها. 

 وفي الوقت الذي تختلف هذه الثقافات حول أفكارها ورؤاها إلى الحد الذي تصل فيه إلى معاداة بعضها البعض، فإنها تشترك في أمرٍ واحد: معاداتها للنسوية وحقوق النساء بشكلٍ عام. وكما في حالة اليمين، فإن لهذه الأيديولوجيات آثاراً تمتد إلى الحياة الواقعية متمثلةً بهجمات كراهية وأعمال عنف، مما يعني أن لها مدياتٍ خارج المساحات الرقمية.  

لمجاميع المانوسفير شفرات ومصطلحات لغوية خاصة، وخطاب يميز أصحابها. من أهم تلك المصطلحات التي أخذت تنتشر في المانوسفير العربي والعراقي أيضاً هو مصطلح “الحبة الحمراء”، وتُصنف بعض الأبحاث الفئات التي تستند إلى الفلسفة المرتبطة بهذا المصطلح إلى ثقافة فرعية بحد ذاتها، وهذا يؤشر إلى التداخل المركب بين مجاميع المانوسفير.   

تُشكّل فكرة الحبة الحمراء استعارةً من فيلم الخيال العلمي ذا ميتركس The Matrix أو المصفوفة المُنتج عام 1999؛ وهي تمثل عالم خيالي صنعته الآلات لاستعباد البشر، وتحديداً من المشهد الذي جمع بين نيو، الشخصية التي لعب دورها الممثل الأمريكي كيانو ريفس، ومورفيس (لورينس فيشبورن) الذي يجنده لمهمة تحرير البشرية: “مورفيوس ماداً يديه نحو نيو ليقدم له حبتين صغيرتين: تأخذ الحبة الزرقاء فتنتهي القصة. تستيقظ في سريرك الخاص بك، وتصدق ما تريد أن تصدقه. أو تأخذ الحبة الحمراء، فتبقى في بلاد العجائب، وسأُريك ما مدى عمق حفرة الأرنب. تذكر، أنا هنا أقدم الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة”.  

بحسب متبني هذه الفلسفة، فإن الحبة الحمراء من شأنها أن تُنبه الرجال إلى “مخاطر” النسوية وكيف أنها أيديولوجية تستهدف استعباد الرجال وتتمحور حول مظلوميتهم. كما يذكر الباحث المغربي عبد الإله فرح في دراسةٍ له عن مجتمع الريد بيل المغربي، تكمن مشكلة الواقع الذي يؤسس له أفراد هذا المجتمع في أنه قائم على معاداة وإقصاء النساء وكراهيتهن، كما أنه “لا يستند إلى حقائق أو أدلة سليمة، بل هي بالأحرى مجموعة معقدة من التخمينات والتبريرات التي يمكن أن تكون ساذجة أحياناً”. 

سواء كنا نتحدث عن الطيفين اليميني العراقي أو المانوسفيري العراقي، فإننا نجد أن العديد من تصوراته مستمدة ونابعة من الغرب، واستعيرت أفكاره ونُقلت كما هي تماماً مع كثيرٍ من الإضافات التي تتواءم مع السياق العربي/ الإسلامي من أفراد يتهمون الحراكات النسوية بالتهمة ذاتها: النقل الأعمى والمستورد من أفكار الغرب التي، بحسب هؤلاء، لا تتناسب مع قيم المجتمع المحلي وأعرافه. وهنا مكمن المفارقة. إلا أنه في حالة العراق، فإن التداخل بين كل هذه المجتمعات الرقمية أشد تعقيداً وضبابيةً، كما وأن تأثيره على حيوات النساء أشدُ خطورة وفتكاً.  

الحال هذه، سنتناول هنا النسخة المحلية من هذه الظاهرة على شكل موجتين: تميزت الموجة الأولى ببروز مصطلح “اليمين العراقي” واتخاذ أفراده هوية يعرفون بها أنفسهم علانيةً، فيما اتسمت الموجة الثانية بخفوت ذلك التعريف من دون اختفاء دعائمه الأساسية، إذ حلت محله ألقاب وصفات أخرى، مع بعض الاختلافات في الأيديولوجيات والرؤى وحسب خلفيات المنتمين له. والأهم أن الموجة الثانية شهدت تبلور لظاهرة المانوسفير وتشابكها مع طيف اليمين العراقي بحلتها الجديدة.  

الموجة الأولىيمينيون فخورون  

مثّل عام 2014 بداية ظهور جماعات غير منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي تُعرِف نفسها بـ”اليمين العراقي”. وكان رواد الموجة المؤسسة الأولى -إن صح القول- مجموعة من الملحدين واللادينيين العراقيين الذين يعيشون في العراق أو خارجه. 

تذكر ميساء، وهي صحفية وناشطة سياسية تعرفت على نشاطهم منذ هذه المرحلة المبكرة، أن البداية كانت مع نشوء مجموعة على الفيس بوك في أواخر عام 2013 تقريباً تمثل تجمع للملحدين واللادينيين، وكان من بينهم أولئك اليمينيون.  

تعرّف كريم، وهو كاتب وصحفي، على نشاط اليمنيين منذ بدايتهم أيضاً، “في بادئ الأمر، مثّل اليمين العراقي مجموعة من الشباب الذين أبكروا في الإلحاد، فخروجهم عن الدين لم يعنِ رفضهم للكثير من تعاليمه خصوصاً تلك المتعلقة بالنساء.  

“لم يقدروا أن يتخلصوا من رواسب العشائرية وتقاليدها الاجتماعية. فالخروج من الدين هو أمر صعب، والأصعب منه هو الخروج عن التقاليد والأعراف الاجتماعية”، وفق كريم. 

ولكن أفكارهم وأيديولوجياتهم لم تكن قد تشكلت على نحوٍ واضح بعد، ونحن هنا نستخدم صيغة الجمع للتأكيد على غياب أيديولوجية واحدة يُجمع عليها جميع اليمينيين. فهناك اختلافات بينهم وتناقضات في كثير من الأحيان، مردُّها الرئيس اختلاف خلفياتهم الدينية: إسلامية أم ملحدة. أدت مثل هذه الخلافات الى حصول “طلاق” بينهم، كما يصف المدوّن نبيل، في الموجة الثانية على وجه الخصوص كما سنناقش لاحقاً، مما حدا ببعض الأسماء البارزة إلى الخروج من الصفحات الجماعية والمجموعات و”التغريد خارج السرب” بشكل فردي، وإلى تشكيل حسابات ومجاميع وصفحات جديدة كان القائمون عليها من خلفية إسلامية. نحاول في المحور التالي، استعراض أبرز تلك الأيديولوجيات. 

الأفكار والأيديولوجيات 

بعد تشكُّل المجموعة آنفة الذكر، لم يمضِ وقتٍ طويل حتى بدأت تنطلق صفحات عامة على الفيس بوك تؤسس وتروج لأفكار اليمين العراقي. يخبرنا نبيل، المراقب لنشاط تلك الصفحات منذ انطلاقها، كيف شكلت صفحة عراقية على الفيس بوك النواة لليمين العراقي وهي لا تزال فاعلة إلى الآن. مضيفاً أن المتابع لمحتوى تلك الصفحة سيلاحظ أن “أفكارهم مبنية كلياً على التراث اليميني المحافظ الغربي، وهم متعمقون فيه بشكل مبهر، ويعمدون للمقاربة والتحليل انطلاقاً منه وعودةً إليه، مما يثير الاهتمام تارة والسخرية تارة أخرى. يتبنون “مخرجاته كالرأسمالية التقليدية والداروينية الاجتماعية ومعاداة المساواة بكل أشكالها”، وهناك آخرون “في كثير من الأحيان يتبنون النازية وآخرون يطبّلون لدونالد ترامب”.  

اقتصادياً، ينتقد ويسخر أفراد اليمين العراقي من الاشتراكية ويتبنّون الرأسمالية ويقدمون أنفسهم كأنصارٍ لها وللسياسات النيوليبرالية والخصخصة وأولوية الربح، ويعترضون على حق الناس في الخدمات المجانية مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وبحسب كريم، لم تكن المشكلة في تبني الفكر الرأسمالي بحد ذاته، وإنما في الإيمان بنسخةٍ “وحشيةٍ خالية من التعاطف مع الفقير والضعيف، غايتها جمع المال وإن تطلب الأمر الدوس على الفقراء”. وهذا يتناغم مع متبنيات الداروينية الاجتماعية. وبالإضافة الى دعم رأسمالية بشعة، فهم يناهضون نشطاء حماية البيئة وحقوق الحيوان وينكرون الاحتباس الحراري والتغيير المناخي ويدّعون أنها مؤامرة، وعليه لا يعترفون بخطورتها ويرون أن تداعيات التغيير المناخي مجرد ظواهر طبيعية حصلت على مرّ العصور ولا حاجة لتدخلات وتغييرات سياسية واقتصادية دولية لمواجهتها. كما أن بعضهم يناهض حقوق الإنسان، ولدى بعضهم الآخر العديد من التحفظات على مفاهيم الحقوق الإنسانية، ولذلك فهم يعارضون قيم العدالة الاجتماعية والمساواة، ويحتفون بالسلوكيات العنصرية، بينما يرفضون الديموقراطية. ولذا ليس من المستغرب أن نجد أن أغلبهم يطرح النظام الملكي كنموذج وحيد للحكم الناجح والسديد. بل أنهم يذهبون الى أبعد من ذلك ليبجلوا ويحلموا بالدولة الملكية، ويتمنون لو كانوا تحت حكمها، وتملأ صفحاتهم صور الملك فيصل الأول والثاني والوصي عبد الإله ونوري السعيد. وعندما تتحدث فئة منهم عن التاريخ، فإنها تؤيد الاستعمار والانتداب البريطاني وتعارض ثورة العشرين. فالاستعمار بالنسبة لها كان عاملاً مهماً في تقدم ونهضة الأمم التي خضعت له، خلافاً للدول التي لم تتعرض له أو قاومته، فهم يقدمونها كأمثلة على الدول الفاشلة. وحين تناقش تلك الفئة الحاضر، فإنها تدعم الاحتلال الأمريكي من منطلقاتٍ مشابهة. ومنهم من يؤيد التطبيع مع إسرائيل، في حين يكره البعض الآخر اليهود من متبنياتٍ دينية ونجدهم معجبين بهتلر والنازيين. ومنهم من يتبنى أفكار اليمين البديل ويعلن إعجابه بدونالد ترامب، وغيرهم يميّز ضد الأقليات والطوائف ويحرض عليهم. وهناك من يشيد بنموذج السعودية والإمارات، وبسياستهما في مجال الحكم والاقتصاد. أما اليمينيون العراقيون اللادينيون -خاصة المقيمين في الدول الغربية- فأن الكثير منهم مؤمن باستعلاء البيض ويتبنى مواقف عنصرية، شبيهةً لمواقف اليمين الغربي المتطرف تجاه المهاجرين والمسلمين. 

وبمحاكاةٍ حرفية لليمين الغربي المتطرف، نجد أن تلك النظرة الفوقية تتجلى في ولعهم الشديد بالعمارة الكلاسيكية لارتباطها بالأصالة والتفوّق والتعصب وكذلك السيطرة والقوة، وكره الكثير منهم واشمئزازهم من فنون وعمارة الحداثة وما بعد الحداثة. فحساباتهم تُمجّد بلوحات ومنحوتات وعمارة وفنون عصر النهضة وتلك الكلاسيكية. أما الإسلاميون منهم، فهم معجبون بالعمارة والحضارة الإسلامية، وينادون بأمجادها ويضعون صور العلماء والفلاسفة المسلمين في حساباتهم.  

ترى ميساء، ومن خلال متابعتها لتلك الحسابات ومعرفتها بأصحابها، أن اليمين العراقي سرعان ما بدأ يتكاثر ويستقطب أفراداً ينتمون للوسط الإعلامي أو “المثقف”، فمنهم مترجمون وإعلاميون، أو أصحاب ومدراء صفحات كبيرة تنتمي للمجتمع المدني أو تلك التي أطلقتها منظمات الـNGOs ومن المفترض أنها تروج لمفاهيم حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. بعض هؤلاء مدعوم بالمال أو الجهات الحزبية، تجزم ميساء. ويبدو أن المحتوى المحافظ والرجعي الذي يُقدم بنكهة علمية وثقافية، ويهادن التوجهات الدينية والعشائرية، كان قد لقي صدىً لدى الكثير من الخصوم. 

يمينيون نيتشويون 

مع اتساع الرقعة الرقمية لتلك الحسابات، بدأت خطوطها الأيديولوجية الأخرى تتضح شيئاً فشيئاً. وأخذ أغلب أصحابها يقدمون أنفسهم كمثقفين ونخبة، متبنين نظرة استعلائية وفوقية تجاه الآخرين، فهم متأثرون بفلاسفة ومفكرين غربيين، أهمهم الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه. وكما تم الاستيلاء على نيتشه من قبل النازيين والفاشيين لشرعنة رؤيتهم عن العالم، فإنه شكل مصدر إلهام لحراكات اليمين المتطرف والبديل في العالم الغربي، ربما قد ساهم بذلك أفكاره الإشكالية عن التنوير والحداثة والأخلاق وإساءة فهم بعضها وربط اسمه خطأً بالفاشية من قبل بعض الكتاب الغربيين، وهو أمر حذر منه هوجو دروتشان، الباحث في أفكار نيتشه السياسية والنظرية السياسية عموماً، ومؤلف كتاب    Nietzsche’s Great Politics.  

تنبأ دروتشان عام 2018 بأن سيتم السماح لأن يشكل نيتشه الثقل الفلسفي والفكري لحراكات اليمين البديل والمتطرف. ويبدو أن هذا ما حصل بالفعل. واليمين العراقي سبق تلك النبوءة، إذ تأثر بنيتشه أيما تأثير، حتى ولو لم يقرأ أو يفهم أفراده الفيلسوف الألماني بشكلٍ كامل، بل تعاملوا مع نتاجه بانتقائية. ومن الملاحظ عنهم أنهم يميلون أحياناً إلى كتابة منشوراتهم بأسلوبٍ ركيك يظهر فيها تقليدهم الواضح لنصوص مؤلفات نيتشه التي ترجمها المترجم التونسي علي مصباح. فيما تملأ صوره واقتباساته صفحاتهم وحساباتهم الشخصية. بل وصل بهم الأمر إلى تقليده بقصة الشعر والشوارب، كما يحاكون وضعياته في صوره فيقلدون ذات “البوزات” عندما يلتقطون صوراً لأنفسهم. 

يمينيون علمويون 

واحدة من التناقضات في متبينات اليمين العراقي هو أن المتأثر بنيتشه، وهو المعروف بنقده للعلوم والعلماء والمشكك في العلوم الحديثة على الرغم من دفاعه عن المنهجية العلمية، ممكن أن يصف نفسه في الوقت ذاته على أنه “علموي”. وخلافاً لفلسفة نيتشه حول المعرفة العلمية، تمثّل العلموية “توجُّهاً تعود جذوره إلى أوروبا أواخر عصر النهضة، وقد ساهم، بشكل أو بآخر، وفي بداياته الأولى، في نشر روح البحث العلمي، إذ دعا إلى التركيز على المنهج التجريبي المستند إلى الأدلة والبراهين، لكنَّه تحوّل في عصور لاحقة من دعوة مستندة على مقَدِّمات صحيحة (استخدام العلم لتفسير الكون) إلى أيديولوجيا (العلم يقدم إجابات عن كل شيء) لا تختلف عن باقي الأيديولوجيات”. لكن بعد التفحص والبحث، تبين لنا أن أغلب من يسمون أنفسهم “اليمينيين العلمويين” يتبنون المصطلح فقط لأنهم ينشرون مقالات علمية مجمعة أو مترجمة حول مواضيع عن التطور والطب والعلوم كالفيزياء والكون، بمعنى أنهم قد يكونون في الواقع جاهلين بمعنى المصطلح وماهيته. وبفعل ذلك، جذبوا الكثير من المتابعين من مختلف الخلفيات والتوجهات. على أنهم حين يقومون بذلك، يتورطون في السرقة الفكرية كما ذكر لنا الأشخاص العديدون الذين لاحظوا ذلك من خلال غياب مصادر المقالات التي ينشرونها مترجمة في أغلب الأحوال، بل أنهم قد ينسبونها لأنفسهم بعد ترجمتها إلى العربية وحتى إذا ما أرفقوا المصدر فإن ترجمتهم لا تكون دقيقة أو أمينة للنص الأصلي.  

لا غرابة إذاً في أن يقلل اليميني وبالأخص العلموي من قيمة الأدب، فبعضهم يظن أن الروايات والشعر منتجات إبداعية لا فائدة منها للبشرية كما أن أغلبهم يستخفون ويستهزئون بالرواية العراقية والشعر، وخاصةً قصيدة النثر. وهم دوماً يستهدفون ويهاجمون الشاعرات والكاتبات والصحفيات، وأي امرأة تحظى بتقدير المجتمع أو تحقق إنجازات ملحوظة وتفخر بها النساء.  

عمل فني: ميس السراي

صحيح أنه من غير المنطقي والبنّاء مدح نتاج المرأة الكاتبة فقط بسبب جنسها، بل على العكس تماماً، احترام قيمتها ككاتبة وكإنسانة يُحتم تناول نتاجها من خلال عدسة النقد الموضوعي الرصين، إلا أن تعامل هؤلاء اليمينيين مع الكاتبات والشاعرات يكون من خلال الشخصنة والتنمر والاستهزاء وحتى التشهير. تقول ميساء، إن هناك صفحة يمينية ساخرة، أسست في ما بعد لصفحات أخرى مشابهة تتبع النهج ذاته، انطلقت في البداية فقط لهذا الغرض: السخرية من الكاتبات الشابات والتنمر عليهن.  

والحال هذه، يمكن القول إن الهجوم على الكاتبات لا يكمن سببه في النظرة الدونية للأدب وحسب، بل لأنه متناغم مع رؤيتهم المناهضة للمساواة والنسوية، ومع الأفكار الميسوجينية (أي الكارهة للنساء) المباشرة تارة، أو تلك التي تتجلى في ما بين السطور، تارة أخرى. وبغض النظر عن الخلفيات أو الرؤى المختلفة، يُجمع اليمينيون على معاداتهم للنسوية، على وجه الخصوص، فهم في حال اتفاق  دائم بهذا الشأن. 

مناهضة النسوية 

لا تخفي الصفحات والحسابات اليمينية موقفها المناهض والمعادي للنسوية، بل على العكس تجهر وتتفاخر به. فأصحاب هذه الحسابات يُعرّفون أنفسهم كمناهضين للنسوية، ويكرسون أغلب صفحاتهم لفضح وتعرية النسوية، وفقاً لهم، مروجين لفكرة أن بناء مجتمع صالح يتطلب الحفاظ على بقاء النساء في الأوضاع والأدوار التقليدية نفسها التي يحددها لهن النظام الأبوي. ويشكُّل هذا الرأي الأرضية التي ينطلق منها هؤلاء الأفراد والجماعات مهما اختلفت خلفياتهم. وكذلك فهم ينادون بقيم الرجولة التقليدية والفحولة وقوة النظام الأبوي المتماسك، ويطالبون بالعودة للتقليدية، ويتحدثون عن خوفهم من انهيار الحضارة الغربية بسبب سياسات الهوية والصوابية السياسية واليسار والنسوية والكويرية والووكية، وهي “مذهب” انتشر حديثاً في أمريكا وأوروبا للمناداة بالصحوة الفكرية بادئ الأمر، لكن من مآخذه مناداته “بالهدم المنهجي الشامل”. ومؤخراً، راح اليمين يتحدثون ويحذرون ممّا يسمونه بـ”أيديولوجيا الجندر”. وبناءً على ما سبق، فهذه المواقف العدائية بديهياً هي الأخرى نابعة من رفضهم للمساواة عموماً، والمساواة هي عماد الفكر النسوي وحراكاته. وكما يصف نبيل، وهو نفسه غير مناصر للنسوية، هم بلا شك أعداء “لكل ما فيه رائحة (يسارية)”. 

لكن أن تناهض الفكر النسوي وتختزل مدارسه المتعددة -على ما في ذلك من تجنٍ وفي كثير من الأحيان تشويه وشيطنة للخطاب والمناهج النسوية- شيء، وأن تستهدف النسويات أو الناشطات عموماً وحتى الرجال المناصرين لهن، بالإضافة لأي امرأة أو رجل مختلف عنهم، عن طريق الطعن والفضح والتهديد والابتزاز والتشهير، شيءٌ آخر تماماً. وهذا ما تورط به بعض يمينيي الموجة الأولى، بحسب شهادات ضحاياهم من نساء ورجال. هذا لا يعني أن جميع من يناهض النسوية من تيار اليمين العراقي، كان قد ألحق الأذى بغيره. بيد أنه لم يبادر من ينتمي له الى اتخاذ موقف أخلاقي يتمثل باستنكار تلك الأفعال والسلوكيات المشينة أو بمقاطعة مرتكبيها رقمياً أو واقعياً وبصورة علنية. فهل كانوا راضين عنها؟ أم أنها لم تكن مهمة بالنسبة لهم؟ أم أنهم لم يعلموا بها؟ وهذا احتمال ضعيف كون أغلبية تلك الممارسات كانت تحصل في صفحاتهم العامة والخاصة وحساباتهم الجماعية ومجموعاتهم الخاصة. في كل الأحوال، ليست لدينا إجابات قطعية حول هذه الأسئلة. ولكن توجد أدلة مستمدة من شهادات الضحايا أن ما تعرضوا له من قبل بعض اليمينيين يرقى إلى مستوى جرائم أو “إرهاب الكتروني (سيبراني)”، كما يصفها كريم، تمتد آثاره الى أرض الواقع، من دون أن يتعرض مرتكبوها لأي مساءلة قانونية أو إدانة مجتمعية، على أقل تقدير، كما نُفصل في المحور التالي. 

إرهاب رقمي” ضد المختلف 

منذ تشكل مجموعة اللادينيين والملحدين العراقيين، استهدف بعض أفرادها اليمينيين، العضوات فيها. بهذا الصدد، يسرد كريم كيف أنهم ظنوا أن النساء العلمانيات أو المتحررات أو اللادينيات يعني أنهن متاحات للآخر، “حين ألحدوا وتركوا الدين، اعتقدوا أن الفضاء مفتوح أمامهم للحرية، وبالتحديد الحرية الجنسية، وبأن المرأة العلمانية متاحة جنسياً”.  فحينما تعرّض بعضهم للرفض من هؤلاء النساء، كانت تلك الشرارة التي أثارت كراهيتهم ضدهن. تضيف ميساء أنهم ضمن تلك المجموعة، انتقموا من تلك العضوات عن طريق الابتزاز والفضح والتعهير والتهديد، وهي ممارسات مستمرة لغاية اليوم ضد النساء والنسويات. 

وبحسب المقابلات التي أجريناها، يشرح لنا ضحاياهم، أساليبهم الترهيبية. فعلى سبيل المثال، يقومون بجمع لقطات شاشة (سكرين شوت) لمنشورات وتعليقات الفتيات أو النسويات والناشطات بحقوق المرأة على صفحاتهن أو مجموعاتهن بعد أن ينضموا إليها بحسابات وهمية بأسماء فتيات، ثم يقومون بنشر السكرينات على حساباتهم وصفحاتهم، مصحوبة بالتحريض عليهن وشيطنتهن، وحشد وتشجيع الناس على مكافحتهن. ويشنون هجماتٍ على حساباتهن بهدف الإبلاغ عنها أو حذفها أو اختراقها، أو لإجبارهن على تعطيلها. كما يأخذون صورهن من حساباتهن الشخصية، أو يخترقون حساباتهن وهواتفهن من أجل الحصول على المزيد من الصور والمعلومات. وينشرون ويتداولون ما حصلوا عليه عبر حساباتهم الشخصية وفي “أوكارهم” وهي التسمية التي أطلقها الكاتب والروائي (ك.ك) على مجموعات الدردشة الخاصة بهم على تطبيقات مثل ماسنجر وتلغرام، حيث وجد نفسه مضافاً الى إحدى تلك المجموعات.  

في أغلب تلك المجموعات الخاصة ومجموعات الدردشة يتبادلون صوراً وسكرينات لضحاياهم وبالحقيقة هم ينشئون تلك المجموعات لإيذاء النساء وبالأخص ممن يتكلمن أو حتى يعطين آراءهن حول القضايا النسوية ويخططون لترهيبهن وكتم أصواتهن من خلال التنمر عليهن وفضحهن وابتزازهن وإقامة حملات تشهير بهن. والطرق نفسها اتبعها المانوسفير العراقي واليمين المتجدد في الموجة الثانية مع النساء ومن يختلف معه.  

كما أنهم من خلال الوصول إلى حسابات ومعلومات النساء والفتيات المستهدفات، يتواصلون مع أفراد عائلاتهن وأقاربهن وزملاء الجامعة والعمل، ليشتموهن ويخيفوهن ويهددوهن بهم وبتشويه سمعتهن أمامهم، أو من أجل أن يحرّضوا عوائلهن عليهن. كما أنهم يرسلون صورهن المُعدّلة أو المخترقة والشخصية إليهم من أجل إذلالهن و”فضحهن”. 

في أغلب الأحيان، يمكن أن يؤدي نشر صورة المرأة حتى لو كانت ترتدي الحجاب، مصحوبة بعبارات الشيطنة والتحريض والشتم، إلى تعريضها لخطر يمكن أن يُفقدها حياتها أو مستقبلها. لكن الأدهى والأخطر، هو في التلاعب بصورهن باستخدام برنامج الفوتوشوب لتظهر كأنها صور إباحية أو تعرٍ، ومن ثم يضعونها على مواقع إباحية وينشرونها في مجموعات وقنوات وحسابات للدعارة على تويتر وتلغرام. غدت الكثيرات ضحايا لإرهابهم وقد تعرّضن لأشكال العنف الجسدي والنفسي من قبل عوائلهن ومُنعن من الوصول إلى الانترنيت وسُحبت هواتفهن، فيما مُنعت أُخريات من الذهاب إلى الجامعة واختفت أخريات لفترة طويلة وعُدن بعدها ليتحدثن عما حصل معهن. وهناك من اختفت بشكل كامل وهناك من تعرضت للقتل. تستذكر نرمين وهي مدونة نسوية بخوف ومرارة ما حصل مع إحدى الفتيات المستهدفات، والتي كانت مراهقة حينها، ساردة لنا كيف حصلوا على صور خاصة لها ونشروها في كروب رجالي عراقي وعلم أهلها بذلك وعدّوا ذلك فضيحة فقتلوها.  

ونرمين ذاتها قد تعرّفت على شاب من الفيسبوك، وتحدثت معه لفترة، لكن تبيّن لاحقاً أنه من اليمين وكان صديقاً لتلك المجموعات التي تشكل المانوسفير المحلي العراقي. وحينما حصلت إحدى حملات التشهير الكثيرة التي يقومون بها، أرسل هذا الشاب صورها إلى أحد قادة الحملة، والذي كان يعيش خارج العراق. وقال له: “هذه نسوية”.  

هذا القائد بدأ بنشر منشورات كثيرة وكان يكتب لجماعته: “انتظروني، سأنشر لكم صور نرمين”. 

تستذكر نرمين بمرارة وخوف تلك الأيام: “كانت أياماً مظلمة في وقتها لم أكن أستطيع النوم وأصبت بالهلع. كنت أخشى فتح الإنترنت والسوشيال ميديا وأجد صوري منشورة. كنت أتخيل أني سأجد صوري موزعة في كل مجموعاتهم والمجموعات الرجالية الأخرى، وستصل إلى أهلي ومعارفي. كنت أقول إنها مسألة وقت وستنشر الصور في العراق. ماذا أفعل الآن؟ هل أقتل نفسي؟ كنت أريد أن أقتل نفسي أفضل من أن يقتلني أحد أفراد عائلتي كأن يضع طلقة في رأسي أو يقتلني بطريقة بشعة”.  

هذا جزء صغير من الكثير الذي مرت به نرمين، والجدير بالتوضيح أن صورها كانت عادية وليست خاصة أو عارية. ولكن، وضحت نرمين أن معظم العائلات إذا وجدوا منشورا تشهيرياً وفاضحاً لبناتهم وأسماؤهن مذكورة فيه، لا يدعمونهن ولا يقفون معهن لمواجهة أصحاب تلك المنشورات، بل يعودون إلى بناتهم وينتقمون منهن لأنهن في نظرهم هن مسؤولات عن الفضيحة، “فما بالك بالصور”، قالت نرمين، ما يعني أن العائلة قد تشكل الخطر الأكبر على النساء لأنها لا تصدقهن أو تدعمهن، واليمينيون والمانوسفير يعلمون بذلك، ولذا يلعبون على وتر غياب الدعم العائلي. 

أما سوزان، وهي ناشطة في حقوق المرأة، فتقول إنهم كتبوا عنها منشورا يسألون فيه بعضهم البعض: “من منكم شريف يملك صور نودز (أي صور عارية) لها؟”. بعد ذلك، أخذوا صورها العادية التي تنشرها على إنستغرام ووضعوها على موقع إباحي. تقول: “سهرنا حينها، أنا ومجموعة من الصديقات، لمراسلة الموقع وحذف الصور منه. بعدها صاروا ينتحلون حسابات باسمي وينشرون صوري ويفبركون منشورات وتعليقات باسمي”. تضيف سوزان، “حتى إذا اختلفوا مع رجل، فلكي يؤذوه، كانوا يأخذون صورة زوجته أو ابنته وبالفوتوشوب يركبونها على صور إباحية”. 

الموجة الثانية: المانوسفير العراقي واليمين العراقي المتجدّد 

من ملاحظاتنا الميدانية والحوارات التي أجريناها أثناء الإعداد لهذه المقالة، نستنتج أن عام 2019، كان قد شكّل نقطة تحوّل في ظاهرة اليمين العراقي لأسباب عدة. أولاً، بدأت صفحات وحسابات ومجاميع جديدة بالتشكل والظهور لا تنتمي لليمين بالضرورة، ولكنها تقع ضمن دائرة المانوسفير التي أشرنا إليها سابقاً. فبدأت تنطلق حسابات شخصية وصفحات عامة باسم “الحبة الحمراء” (The red Pill/الرد بيل) وأخواتها: الحبة الزرقاء والسوداء؛ بعضها بقالب إسلامي وقومي، مع صفحات ومجموعات “ذا زلمة”، وغيرها الكثير. وكما في حالة اليمين، للمانوسفير مرجعية فكرية من مؤلفات وكتب وفلسفات إغريقية ويونانية تشرعن توجهها وتعزز من فكرة “أن الأجندة النسوية تدمر المرأة وتقوم بغسل دماغها من أجل دعم النسوية”. وهي تستشهد بالتاريخ الأوروبي، خصوصاً العصور الوسطى. أما الحسابات ذات النزعة الإسلامية، فتستشهد بالنصوص الدينية “المقدسة” وبالتاريخ والتراث الإسلامي. كما وتستند هذه الحركات إلى علم النفس التطوري لبلورة فكرتها التي “تقوم على فلسفة ترفض النسوية الحديثة والتقدمية، وتؤمن بدلاً من ذلك بمفهوم حتمي وراثياً للجنس: فهي تؤكد أن للجندر أدواراً متأصلة بسبب “الخصائص الجسدية”. ولذلك تناهض تلك الحسابات، وعلى مستوى عالمي، تعليم وعمل المرأة.  

عمل فني: ميس السراي

أما في السياق العراقي، فيأخذ الوضع أبعاداً أكثر تطرفاً، مما يترتب عنه ردود فعل أكثر حدّة. يُعزى ذلك إلى وجود بيئة سياسية واجتماعية ودينية خصبة تغذي الأفكار الرجعية من دون وجود مقاومة قوية لها مؤسساتياً أو مجتمعياً. فنرى أن أفكارهم المتداولة تتناقض، وتتضارب أحاديثهم وخطاباتهم في منابرهم الرقمية، فمثلاً تارةً يقولون إن التعليم والعمل والاختلاط تعد أسباباً لفساد النساء، وتارةً يحذرون من الزواج من العاملات، ومن ثم نراهم يتحدثون عن جواز الزواج منهن شريطة أن يكنّ خادمات ومطيعات، وعن حقهم بالاستيلاء على رواتبهن لأنهن زوجاتهم. كما يعزون باطلاً عدم إيجادهم لفرص العمل إلى استحواذ النساء على تلك الفرص، متناسين الوضع الاقتصادي والفساد المستشري وسوء الإدارة وسياسات الدولة. 

لدى مجاميع “الريد بيل” شفرات لغوية تبني من خلالها الذات الذكورية ويُقسّم من خلالها الرجال الى أنواع ودرجات. فمثلاً هناك “ذكر الألفا“، في إشارةٍ “إلى تلك الحيوانات التي تحتل في مجموعتها أعلى مرتبة. إذ يمكن للذكور والإناث أن تكون من الألفا بحسب النوع الحيواني. وعلى سبيل المثال، فإن بعض الذكور من الحيوانات يمتلكون وحدهم الحق في التكاثر، ويستخدمون العنف والتهديد لإبقاء مكانتهم في المجموعة عندما يواجهون معارضة من الذكور الآخرين”.   

يلاحظ أن المانسوفير واليمين العراقي ينشطون بأسمائهم وصورهم الحقيقية أو من خلال حسابات وهمية. وعلى حساباتهم، تظهر عادة صور مميزة ومكررة، مثل صور غيغا شاد، وهو مصطلح بات يشير إلى كل ما يُجسد معاني الجاذبية الذكورية، كما وتحمل حساباتهم الشعارات والرموز والصور والمنشورات التي تمثل أفكارهم ومفاهيمهم وتفضيلاتهم. ومن بين ما يشتركون فيه مع بعضهم البعض هو اهتمامهم بالبرامج المفضلة نفسها مثل “What is a Woman”  لـ مات والاش، وهو فيلم وثائقي مناهض للعبور الجنسي وما هم يسمونه بـ”أيديولوجيا الجندر”. وأيضاً البرامج التي يظهر أنها مفضلة عند نظرائهم اليمين والمانوسفير الغربي بعد أن استحوذوا عليها من قبلهم. وغالباً ما تقرأ هذه البرامج على أنها ناقدة للممارسات العنيفة التي تقوم بها الشخصيات الرجالية البطلة. إلا أنهم اختاروا أن يروا أن هذه الشخصيات رائعة، غاضين الطرف عن سلبياتها وعن النرجسية والذكورية العنيفة التي تتسم بها. ومنها على سبيل المثال، فيلم Fight Club وأيضاً فيلم American Psycho والذي تحولت شخصية البطل الذي أداها الممثل كرستيان بيل لأيقونة بالنسبة لهم، وكذلك الأمر مع شخصية توني سوبرانو، رجل المافيا الذي يترأس منظمة إجرامية في مسلسل The Sopranos. 

بتعبير آخر، يتخصّص طيف الحبة الحمراء وظاهرة المانوسفير بشكل عام بعداء النسوية، وأبرز سماته؛ الخطاب الذكوري الذي يُكرس لنظرة دونية للمرأة. على أنه ليس هناك قطيعة بين المانوسفير واليمين، بل هناك تفاعل كبير بينهما إذ يغذي أحدهما الآخر ويقتبس ويستلهم منه. إلا أنه خلال هذه الموجة، وتحديداً عام 2020، اشتدّت حدة الخلافات بين اليمين العراقي الإسلامي والملحد، ودخلت على خط الخلاف صفحات عربية تنتمي للتيار اليميني من خلفية إسلامية، تسخر من رواد اليمين العراقي، وتصفهم بـ”اليمين العطواني”، نسبة إلى فيديوهات المصور زهير العطواني، في تهكم واضح من متبنياتهم، كما ويتهمون بعضهم بسرقة الترجمات والسرقة الفكرية من بعض.  

ثانياً، وفي ضوء ما سبق، شهدت هذه الموجة اضمحلال استخدام مصطلح “اليمين العراقي”، من دون اختفائه كلياً، واستبداله بصفات جديدة منها: “تقليديون”، “محافظون”، و”رجعيون”. كما وظهرت صفحات جديدة وحسابات عامة وشخصية تحمل الاسماء والشعارات ذاتها، ومن هنا بات من الصعب الفصل بين المانوسفير العراقي واليمين. إلا أن أفكار التيار اليميني ما زالت متداولة بقوة، وبعض أفراده صارت لهم ارتباطات بجهاتٍ فاعلة في السلطة فأصبحوا شخصيات مؤثرة تحظى بمتابعة كبيرة، وعلى الرغم من عدم استخدامهم الصريح للقب “يميني”، إلا أنهم يتبنون ويتفاعلون مع الخطاب اليميني العراقي المألوف، ومع الأسماء المرتبطة بالموجة الأولى، والتي لا تشك ميساء بأن الكثير منها مدعوم حزبياً من خلال تعاونهم وعملهم مع المؤسسات الإسلاموية والأحزاب الجديدة وقنوات المال السياسي. 

إلى جانب ذلك، أصبح هناك تيار نشط متكون من أفراد اليمين العراقي في موجته الأولى والمتبنين والأتباع اللاحقين الذين يسعون إلى تأسيس تيار ثقافي يميني من خلال إنشاء دور نشر أو التعاون مع دور نشر قائمة بالاستشارة وتقديم التوصيات لترجمة وطبع كتب تمثل توجهاتهم. فمثلاً، اقتراح كتاب “The Manipulated Man” للترجمة في إحدى صفحاتهم، وهو كتاب قديم صدر عام 1971 لمؤلفته فيلار أستر، والتي ظهرت نكاية بالنسويات في السبعينات لكن تضاءلت بمرور الزمن وخفت ظهورها. بيد أن كتابها عاد ليكتسب رواجاً وشعبية من جديد بعد أن ظهر في المانوسفير الغربي، ومن ثم تعرّف عليه العرب والعراقيون. فبالنسبة لمجتمع “الريد بيل” الغربي، فإن أي عضو ينضم له لا بد له أن يقرأ الكتاب فهو “يدور حول العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة، والطبيعة الحقيقية للمرأة وكيف تستغل المرأة الرجل لتحقيق أهدافها عن طريق الإغواء الجنسي. وعلى سبيل المثال، ترى فيلار أن الوظيفة، الجامعات والتجمعات بشكل عام بالنسبة للمرأة هي بيئة لاصطياد الفرائس (الرجال) واستغلالهم”. ووصف أحد الذين قرأوا الكتاب في مراجعة على Goodreads بأنه كما لو كان “بيان نازي ضد المرأة”.  

وفي المجتمع المانوسفيري/ اليميني العراقي، لاحظنا تفاعلاً إيجابياً مع الكتاب مع تعليقات سعيدة ومرحبة بطرحه في سوق الكتب العراقي، وكان أحدهم يشكر دار النشر والمكتبة، والآخر يرد عليه قائلاً: “كان لنا شرف دفعه للطباعة بالتنسيق مع مولانا فلان والمترجمين”. ويسمي الكاتب والروائي (ك.ك) ترجماتهم لتلك الكتب بظاهرة “التنوير المظلم”، ويقصد به Dark Enlightenment أو الرجعية الجديدة والتي تتميز بانتقادها للحداثة والمساواة والديموقراطية وتدعو إلى العودة إلى الهياكل الاجتماعية التقليدية الهرمية فيقول: “هذه الكتب غير رائجة ومحتقرة في أمريكا وأوروبا، وهي مثل نفايات كتب الرأسماليات واليمين الأوروبي. كما أن الدور التي تتبنى نشر ترجماتهم تفعل ذلك بمسعى صناعة وسط ثقافي يميني عربي يغازل البترودولار الخليجي”. تشمل هذه اللائحة كتباً لليمين المحافظ أو المتطرف الشعبوي، كمؤلفات توماس ساويل صاحب كتاب “أوهام العدالة الاجتماعية” والكاتب والفيلسوف الكولومبي نيكولاس غوميز دافيلا والكاتب السويدي دانيال فرايبيرج وهو شخصية بارزة في حركة الفاشية الجديدة السويدية وحركات اليمين البديل العالمية، وهانز هيرمان هوبه، وهو اقتصادي من المدرسة النمساوية وآلان دو بنوا صحفي وعضو مؤسس في حركة اليمين الجديد السياسية وزعيم مجمع التفكير القومي العرقي، والكثير من الأسماء الأخرى. 

أما السبب الثالث المرتبط بالتحوّل في الموجة الثانية فهو احتجاجات تشرين، التي كانت سبباً آخر في حصول انشقاقات بين أفراد اليمين العراقي. أغلب اليمين العراقي ومن مثّلهم في البداية لم يدعموا احتجاجات تشرين عند انطلاقها، بل كانوا ينتقدونها ويستهزئون بها ويُخَوِّنونها. وحتى الآن، يستمرون في ذلك في كل ذكرى، ولكن نبرتهم أقل شدة من قبل، ويبررون موقفهم من تشرين بأنهم ضد الثورات والاحتجاجات، ويرى بعضهم أنها للأوباش. وهناك منهم من اكتفى بانتقاد احتجاجات تشرين بسبب عدم وجود نخبة تقودها بالمواصفات التي هم يرغبون فيها. وهناك فئة أخرى منهم صاروا يسخرون في صفحاتهم، التي كرسوها للتنمر والتشهير بالمحتجين/ات ورموز تشرين والضحايا، ولم يتوانوا عن شتمهم من أجل إلغائهم ووضع وصمة اجتماعية عليهم. كذلك أوقعت مواقفهم هذه خلافات بينهم وبين بعض متابعيهم.  

لكن هناك منهم من دعم الاحتجاجات وصاروا ناشطين ومناصرين لها وكرسوا حساباتهم للنشر حولها ومواقعهم للمشاركة فيها، الأمر الذي أحدث تشظياً بينهم في البداية. وكان بعض من هؤلاء المناصرين ممن حرّضوا على الفتيات وشاركوا في حملات التشهير بهن، لكن دعمهم لتشرين كأنما غسل ماضيهم من دون أن يعتذروا عنه، فسامحهم الكثير من الناس الشاهدين على أفعالهم، ظناً منهم أنهم قد تغيروا. ولكن تبين لاحقاً أن الكثير منهم ظل محتفظاً بأفكار الكراهية ذاتها التي كانت لديه قبل تشرين، خصوصاً تجاه النسويات والناشطات. ومع المتابعة والقبول الذي حصلوا عليه بعد تشرين من الجمهور التقليدي والبسيط الذي يتابعهم عبر صفحاتهم وقنواتهم وبودكاستهم وبرامجهم في بعض القنوات الفضائية، صار كلامهم بكل ما يحمله من توجهاتهم العدائية التلاعبية مسموعاً ومصدقاً ومقروءاً ومؤثراً بشكل واسع. ومن المهم ذكر أن بعضا من هؤلاء قد تراجعوا وتنصلوا عن دعمهم لتشرين في ما بعد وصاروا يشنعون بالاحتجاجات ويسخرون منها كما الآخرين من بقية اليمين. 

 كراهية النسوية والميسوجونيةأيديولوجيا عابرة للخلافات 

كما في الموجة الأولى، تبقى كراهية النسوية والنساء والفئات المستضعفة الأخرى، الأيديولوجيا التي توحد الفرقاء، كما يحصل بين اليمين البديل والإسلاميين والمسلمين المحافظين في دول العالم الغربي. فمع ارتفاع الصوت النسوي على منصات التواصل الاجتماعي خصوصاً أثناء وبعد احتجاجات تشرين، تصاعد معها الخطاب المناهض والتحريضي. وعلى مدار السنوات الأخيرة، مكّنت منصات التواصل الاجتماعي من تسهيل التواصل بين العراقيات للتعبير عن آرائهن الفردية والجماعية بشأن القضايا النسوية. فاستخدمنها كمنبر ليتحدثن عن المساواة والتمييز الجنسي والتحرش والاستغلال، وكانت أصواتهن تعلو ليساهمن في نشر الوعي النسوي حول حقيقة اضطهادهن من قبل المنظومة الأبوية. بصورة أدق، قد تمكّنَّ من ممارسة التوعية النسوية رقمياً من خلال إنشاء بعض الصفحات والمجموعات النسوية القليلة ليتحدثن من خلالها عن ضرورة تغيير الوضع والمطالبة بحقوقهن المسلوبة. لم يحظ هذا بإعجاب اليمين العراقي الذين بدأوا بمهاجمتهن منذ بداية تأسيسهم وتكوينهم لمجاميعهم. وحتى اليوم، يستمرون وبموازاة الجماعات الناشئة عن أفكارهم والرجال التقليديين والمحافظين وممن يشكلون مانوسفير عراقي في تبني أساليب إرهابية لترويع النساء عموماً والنسويات بشكل خاص في الفضاء الرقمي، بهدف عرقلة قدرتهن على التعبير والتوعية. فعند انطلاق تطبيق الكلبهاوس الصوتي في العام 2020، على سبيل المثال، تعرضت غرف الدردشة الخاصة بالنسويات على ذلك التطبيق لهجوم من قبلهم في تلك الفترة، حيث كانوا يدخلون على تلك الغرف من أجل أن يصرخوا عليهن ويشتمونهن، ويقومون بتسجيلات فيديوية لمحادثاتهن وحواراتهن الصوتية على التطبيق، ومن ثم يستقطعون بعض كلامهن من سياقه لتشويهه وتحريفه بهدف تصعيد هجوم الناس عليهن ومن أجل تعزيز التصور المغلوط عن النسويات بوصفهن شريرات وخطرات على المجتمع. 

واليوم أصبحت هذه الجماعات اليمينية والمانوسفيرية أكثر تطرفاً من أي وقتٍ مضى، فصارت حواراتهم وآراؤهم تدور، مثلاً، حول أهمية عودة النساء إلى الظروف التي كن عليها قبل السماح لهن بالتعليم والعمل. ويؤكدون أيضاً على ضرورة تعنيفهن واغتصابهن واحتجازهن. وهذا يفسر اتخاذهم وأقرانهم في المانوسفير الغربي والعربي عموماً لشخصيات مشبوهة كأندرو تيت قدوةً لهم. وهم يرشقون من يخالفهم بالسباب ويتفاعلون كثيراً بـ”الاضحكني” كأسلوب واهٍ للسخرية وإهانة من لا يتفقون معه، كما أنهم يستخدمون كلمات مثل “نسوي” و”يساري” و”شيوعي” و”مثلي” و”تشريني” كشتائم. 

وقد لعبت ترجمة مقاطع الفيديو لشخصيات غربية سيئة السمعة دوراً كبيراً في تسريع نشر هذا المحتوى التحريضي على تطبيقات التواصل الاجتماعي. ويعد جوردان بيترسون، عالم النفس الكندي، مثالاً على ذلك، خصوصاً قبل تصريحاته النارية المستفزة حول الحرب على غزة، والتي شكلت صدمة لمتابعيه من المسلمين. إذ تتوفر مقاطع الفيديو الخاصة به حول أدوار الجنسين والاختلافات البيولوجية والنفسية بين الرجال والنساء على موقع YouTube مع ترجمة باللغة العربية. ويتم مشاركتها أيضاً في غرف الدردشة على WhatsApp. فقد حصّل أحد مقاطع الفيديو التي تُظهِر بيترسون وهو يتحدث عن الاختلافات “المثبتة علمياً” بين الرجال والنساء، خاصة في “المجتمعات المساواتية”، على 1.7 مليون مشاهدة. 

ولعلّ الحملة المناهضة للجندر هي أقرب مثال على السردية العدائية للنسوية وحقوق المرأة، من جهة، وعلى التفاعل بين اليمين العراقي والغربي من جهة أخرى. إذ شارك بعض اليمينيين الملحدين وأيضاً الإسلاميين منهم في حشد الناس ليدعموا الحملة. كما استفاد القائمون على حملة الترهيب والتحريض من رجال دين ونواب وسياسيين من فيديوهات اليمين الغربي التي ترجمها بعض أفراد اليمين والمانوسفير العراقي، ومن الشائعات والأكاذيب والهستيريا التي نشروها والتي نقلوا العديد منها من الغرب مما ساهم بتغذية الحملة. وكان أحد اليمينيين فعالاً في هذه الحملة وظهر وهو يدَّعي أنه رجع للإسلام وحرض على الناشطات ونشر صورهن وحساباتهن على صفحاته، وترجم وأعاد نشر أغلب الفيديوهات والأخبار التي تخص الغربيين المناهضين للمثليين وصار يتواصل ويراسل الجهات الإسلاموية والمرجعيات ورجال الدين ويطلب منهم تصدير فتاوى لتحريم الجندر والنسوية. ثم تبنته إحدى القنوات الإسلاموية الشيعية وصار يُدعى ويُستضاف في قنواتهم وندواتهم وبرامجهم.ii 

فيما تكونت مجاميع على التيلغرام تراقب وتصطاد من يدافع عن الجندر، وتعيد نشر آرائه مع وصم لشخصه وتحريض عليه، في استراتيجية مشابهة لأساليب الموجة الأولى. فكما تذكر ميساء، هم لا يهاجمون بشكل فردي، وإنما يهجمون “كالضباع” على الضحية وينقضون عليها، والضحية هنا تشمل المرأة والرجل طالما يقفون مع النسوية أو حقوق المرأة.  

وهذا ما حصل مع طارق، الذي كان لديه عام 2020 حساب باسم وهمي يدعم فيه حقوق المرأة ويساند النسويات، فقد تابعه بعض اليمينيين، وبرغم استفزازهم وأحياناً تجاوزهم عليه، إلا أنه قرر أن يتقبلهم ويناقشهم وألا يحظرهم. يقول، “لم يفدني ذلك في شيء بل بالعكس زاد تجاوزهم عليّ وظلوا ينشرون سكرينات لمنشوراتي أتعرض بها للشتم والإساءات والاتهامات بالتملق للنساء ونعتي بصفات مسيئة مثل: “شكيب”، “سمب” (صفة تحقيرية تشير للرجل الذي يبالغ بدعم النساء لمبتغى يسعى إليه)، “اختهن”، “مخصي”، الخ”. مؤخراً، قرر طارق نشر صوره الشخصية في حسابه، وفوراً تم نشرها على إحدى صفحاتهم التي كان اسمها يحمل نعتاً مهيناً للرجال المدافعين عن النساء، مع إساءة وتنمر على شكله، معتبرين إياه السبب في “تضرعه” للنساء. يستدرك طارق، “ناقشت العديد منهم، دائما يواجهون كلامي بتفاعل الاضحكني والسماح بشن حفلات شتم وتنمر والدخول لصفحتي مثل الصراصر للطعن وتوجيه التهم والإساءات بكل ما يمكنهم وكل ما يحفظونه وبطرق خبيثة. اضطررت قبل أشهر إلى حذف صفحتي القديمة بسبب نشر سكرين لتعليق لي يخص طليقتي عندما كانت زوجتي وتكلمت مخاطباً أحد الاشخاص واصفاً إياه على أنه “صديق زوجتي”، فقاموا باستغلال ذلك التعليق وتحريف كلمة “صديق” ومعنى “الصداقة” عن مقصدهما، عندما نشرته صفحة ساخرة من حسابات المانوسفير. “تعرضت صفحتي لهجمة واتهامات بأني ديوث لذلك حذفت صفحتي لأن نفسيتي تعبت من قساوة الكلام الذي يُقال عني بينما أنني بعيد كل البعد عن هذا الأمر”.  

لماذا هم كذلك؟ 

حاولنا في هذا المقال الطويل شرح هذه الظاهرة المعقدة من جوانب عدة، ولكننا لم نقدم تفسيراً لها، فهذا يحتاج الى دراسات وأبحاث أخرى من المهم أن يلتفت لها الخبراء والمختصون مستقبلاً، أخذين بنظر الاعتبار العوامل الهيكلية والبنيوية ودور الدولة والقوانين والمؤسسات في التصدي لها أو بخلافه تفاقمها وتمادي أفرادها. إلا أننا في خاتمتها، نُعرج باقتضاب على التفسيرات التي قدمها ضحاياهم حسب تجربتهم معهم، وبمدى الخطورة التي يشكلها خطابهم أو ممارساتهم بالنسبة لهم وللمجتمع عموماً. فيعزو من تحدثنا إليهم سلوك هؤلاء الأفراد الى أسباب نفسية وعاطفية وتربوية مختلفة، تتعلق بفقدان تقديرهم لذاتهم، وفشلهم في تكوين علاقات عاطفية، ورواسب التربية الذكورية العنيفة التي لم يتخلصوا منها. ولكن لا يوجد سبب كافٍ للإساءة للآخرين والتشهير بهم وابتزازهم وتدمير حيواتهم، خصوصاً النساء منهم. فرغم أن الأخلاق مفهوم مطاط وفضفاض تختلف معاييره من شخص لآخر، إلا أنه هناك أخلاقيات ومبادئ عامة تخص التعامل مع الآخرين. وبهذا الصدد، عندما كتب إلينا نبيل، كان واضحاً في توجهه غير المناصر لما يسميه “مشروع النسوية” أو حتى المنصات التي نكتب عليها، لكنه قال إن حس المسؤولية يُحتم عليه أن يكتب ما يعرفه عن اليمين كونه كان شاهداً عليهم، وبأنه من الضروري أن يمارس الإنسان “الإنصاف وشرف الخصومة” حتى مع المخالف له. فيما ميز كريم بين اليمين المؤذي وبين اليمين “المثقف”، صاحب “رؤيا رصينة ومعقولة”، حتى وإن كنا نختلف معها. لكنهم، على حد قوله، لا يمكنهم إيصال فكرتهم، ولا يتصدرون المشهد. وفعلا فإن المشكلة لا تتعلق باختلاف الأيديولوجيات، بل بتقديمها بانتقائية وقصور شديد يمنع من إمكانية وجود نقاش بنّاء ومثمر، وبتشجيع تلك الأيديولوجيات على معاداة الآخر وتبني خطاب عنصري، دوغمائي، شعبوي، فوقي، واستعلائي، يحاكي خطابات اليمين الغربي، الذي يأخذ بالصعود السياسي مع فوز سياسيين ينتمون لليمين المتطرف في مناصب رئاسية كما حصل مؤخراً في الأرجنتين وفي هولندا

عمل فني: ميس السراي

والأمر من ذلك، هو انتهاج أسلوب التنفير والكراهية مع أي شخص لديه فكر مخالف، بل والطعن به والإساءة اليه بأبشع الطرق الممكنة. من يكون بعيداً عن حسابات المانوسفير، أو لا يكتب شيئاً يثير حفيظتهم، لا يعلم مدى خطورتهم وأذاهم، بل يظن أنهم مجرد “مراهقين وطائشين لا يستحقون حتى الكتابة عنهم”، كما يرى نبيل، مشيراً الى مجاميع “الريد بيل”: “لا تزال فكرة الريد بيل حديثة على المراهقين العراقيين ولا يتبناها إلا أفراد قليلون ومعدودون وأقل بكثير مما هو بالخليج، وإن كان اليمين العراقي يستحق أن نكتب عنه كلمتين أو نشير إليه كتوجه قائم، فالريد بيل ليس إلا عبثاً على الأنترنت هو في رأيي بنفس عبثية من يطالبون بتغيير العلم العراقي أو الداعين للهوية الرافدينية.” وهذا، وفق كل ما تقدم، يُعد طرحاً مختزلاً وغير دقيق تماماً لأنه يغفل التشابك بين عنف اللغة والخطاب والعنف المادي والجسدي، من جهة، وحقيقة تجذر الميسوجونية في عمق المنظومة الأبوية: بقوانينها، وأعرافها، وتراثها، ونصوصها كذلك.  

تُفند ميساء الادعاء القائل بعدم خطورتهم بقولها، “كيف يمكن أن يكونوا غير خطيرين؟ هؤلاء أشخاص حقيقيون لديهم أخوات، بنات، زوجات. هم موجودون في الشارع والمجتمع، المجتمع الخالي من قوانين قوية ومؤسسات رصينة حيث تتحكم الأعراف والعادات العشائرية.”  

كما أن صفحات اليمين والتقليديين والمحافظين والمانوسفير العراقي مثل صفحات ومجموعات “ذا زلمة” و”الريد بيل” والتي تروج لـ”الفلسفة الذكورية” ما تزال جاذبة للشباب والمراهقين. هؤلاء صاروا يتبنون خطاباتها وأفكارها التي لا يقتصر رواجها على الحيز الرقمي فحسب، بل تُمارس عملياً في الحياة العامة واليومية جنباً الى جنب مع الأبوية المتمثلة بالسلطة العشائرية والإسلامية وكل عنفهما ورجعيتهما.  

تقول هند، وهي طالبة جامعية تعرضت للإساءة من قبل أولئك الذين يتبنون الأفكار المنبثقة من هذه المجموعات والتيارات الذكورية سابقة الذكر: “هم متفشون وعدائيون، وناقمون على النساء. لا أعلم بالضبط ما الذي يسعون إليه. فالأمر تجاوز المجموعات الطلابية على الإنترنت التي ينتشرون فيها، لكن أنا أعلم أنهم يهاجمون ويستمتعون بإيذاء الطالبات، ويتحدثون عنهن بكلام مهين، يقللون من شأنهن، سواء في قاعات الدراسة أو خارجها، نحن لا نشعر بالأمان حتى في جامعاتنا”. 

لكن كيف يمكن أن يفهم من يتفاعل بأضحكني مع منشور عن ضحايا أطفال غزة معاناة هند وسواها؟ يقول طارق بأسى، “عندما رأيت أحد مؤسسي اليمين العراقي يضع أضحكني على منشور لضحايا غزة، قلت لنفسي: إذا كان هذا يضحك على قتل أطفال، فماذا أكون بالنسبة له؟”. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى