النضال البيئي في العراق ضد طمع الخارج وجشع الداخل
النضال البيئي في العراق ضد طمع الخارج وجشع الداخل
انصار جسام
عاش الأهواريّون في العراق سلسلةً من المآسي على مرّ العقود. يقول مصطفى هاشم،1 ناشط أهواري ومناصر لحقوق البيئة والإنسان وعضو في “صوت الأهواريّين- الشبكة الأهوارية لحقوق الإنسان”، إحدى المجموعات العديدة المنظّمة ذاتيًا في الأهوار التي انتشرَت في جنوب العراق وإيران: “لقد عشنا تاريخًا طويلًا من النزوح والقمع والعنصرية، ولطالما وقفنا بوجه الحكومات الاستبدادية وأيّ شكلٍ من أشكال الاستبداد. كانت عائلتي من المعارضين الفاعلين لصدام حسين؛ فعمّي لقيَ مصرعه في خضمّ معارضته في هور الحويزة. ترفض الحكومة العراقية الحالية أن تعترف بذلك وأن تعطينا حقوقنا كعائلة شهيد”.
ويتابع قائلًا: “لديّ عمّتان قُتلتا جراء انفجار ألغامٍ من مخلّفات الحرب الإيرانية-العراقية في هور الحويزة. كما لحقَت بالعديد من الأشخاص الآخرين إصاباتٌ بالغةٌ في أعقاب الحرب. نتكلّم هنا عن معاناةٍ شديدةٍ وأسًى لا ينضب”.
أزماتٌ متداخلة
بحسب تقرير للمنظمة الدولية للهجرة، فإنّ العراق لا يحتلّ المرتبة الخامسة في قائمة البلدان الأشد تأثرًا بالتغير المناخي فحسب، بل – كما توضح مروة النعيمي، ناشطة بيئية مولودةٌ في بغداد ورائدة أعمالٍ في مجال معدّات الزراعة العضوية: “لدينا في العراق أيضًا تصحّر، فالتربة تفقد موادها العضوية، ولدينا أزمة مياه وزيادة هائلة في التلوث ناهيك عن أزمة السكن والطاقة. يتعيّن على الناس أن ينفقوا مزيدًا من المال للاستمرار، مستهلكين مزيدًا من الطاقة على سبيل المثال لتبريد الهواء. إنها حلقة مفرغة ستودي بنا – ما لم نجد حلولًا لها – إلى مرحلةٍ نفقد فيها نحن والأجيال المستقبلية سُبل المعيشة”.
يجب النظر إلى التغيّر المناخي بطريقةٍ شاملةٍ وفهم تقاطعه مع تاريخٍ طويلٍ من التدمير البيئي المستهدَف الذي تبرّره العنصرية، إلى جانب مشاريع التحديث، والسّموم التي بثتها الحروب المتعدّدة في البيئة العراقية
يدعو كلٌّ من هاشم والنعيمي إلى فهم الاقتصاد السياسي للتغيّر المناخي والعوامل التي تعززه. فيجب النظر إلى التغيّر المناخي بطريقةٍ شاملةٍ وفهم تقاطعه مع تاريخٍ طويلٍ من التدمير البيئي المستهدَف الذي تبرّره العنصرية، إلى جانب مشاريع التحديث، والسّموم التي بثتها الحروب المتعدّدة في البيئة العراقية. ويعود هذا التلوّث إلى الحرب الأميركية ضد العراق في عام 1991 عندما استُخدم اليورانيوم المخصّب شديد السمّية.2 وشهد عام 2003 موجةً غير مسبوقةٍ من ترك النفايات وحرقها على يَد الجيش الأميركي: من مركَباتٍ مهملةٍ وأسلحةٍ متبقيةٍ إلى ملابس مهملةٍ وأكثر من ذلك بكثير، رُميَت كلّها على أرض العراق، أو في مائه أو هوائه. وخلّفَت هذه السّموم تأثيرًا خطيرًا على الإنجاب، إذ سُجّلت أعدادٌ هائلةٌ من حالات الإجهاض.
وبدلًا من استخدام نظرية “الحادثة المنفردة” ونزع الطابع السياسي عن الدفاع عن البيئة، يشير هاشم والنعيمي إلى أوجه الظلم التي طال أمدها والتي تتواصل ليس فقط كجزءٍ من مسارٍ معيّن، بل أيضًا كنظامٍ دام لعقودٍ يتقاطع مع الطبقات الاجتماعية والجندر.
النفط والتدمير البيئي
في حين تزعم الحكومة العراقية أنّ جفاف الأهوار ناتجٌ بشكلٍ رئيسٍ عن التغيّر المناخي والسياسات المائية للدول المجاورة (إيران وتركيا)، تواصل منح تراخيص لشركات إنتاج نفطٍ أجنبيةٍ في هور الحويزة وأماكن أخرى تفتح حقولًا جديدةً في المناطق الجافة/المجفّفة من أراضي الأهوار. في قرية هاشم، تستخدم تلك الشركات المئاتِ من منصات النفط المتحرّكة التي تحفر الآبار وتنتج النفط لمدة 5-6 أشهر، قبل أن تنتقل إلى مناطق أخرى داخل القرية – ما أدّى إلى تدمير التربة والقرية، وارتفاع معدّلات الإصابة بالسرطان.3 يقول هاشم، وهو عاملٌ مياومٌ يعمل 12 ساعة في حقلٍ نفطيّ قريبٍ ويكسب 20 ألف دينارٍ عراقي في اليوم (حوالي 15 دولارًا أميركيًا): “لم أكن لأفكّر قطّ في العمل في شركةٍ للنفط. قبل تجفيف الأهوار مرةً أخرى، كان لدينا كلّ ما نحتاجه لنعيش حياةً من الاكتفاء الذاتي”.
يحاول السّاسة العراقيّون في أحيانٍ كثيرةٍ تجنّب أيّ إشارةٍ إلى التلوّث الناجم عن إنتاج النفط والغاز، على الرغم من أن وكالة الطاقة الدولية (IEA) تؤكّد أنّ العراق مسؤولٌ عن %8 من انبعاثات غاز الميثان العالمية من النفط والغاز، محتلًا المرتبة 33 من أصل 220 دولة تساهم بحوالي 63% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية. إنّ لإنتاج النفط وتكريره تأثيراتٌ محليةٌ مباشرة: فحقل الرميلة الشمالي وحده – وهو أحد أكبر حقول النفط المكتشفة في العالم – قد تسبّب منذ الخمسينات في خسارة 800 كيلومترٍ مربّعٍ من أراضي الأهوار.
يحاول السّاسة العراقيّون في أحيانٍ كثيرةٍ تجنّب أيّ إشارةٍ إلى التلوّث الناجم عن إنتاج النفط والغاز
في مواجهة تدميرٍ بيئي مماثل، أخذ الأهواريّون ينظّمون أنفسهم ويتظاهرون كجزءٍ من حركة العدالة المناخية العراقية والعالمية. وفي بداية مارس/آذار 2023، اعتُقل العديد من نشطاء الأهوار في أثناء احتجاجهم في محافظة العمارة ضد شركةٍ نفطيةٍ استولَت على أراضيهم بالقوة. يقول هاشم: “بدأَت الشركات في العمل لكنّ أهالي الأهوار كانوا قد نظّموا احتجاجاتٍ منذ حوالي أسبوعَين ضد إنشاء هذا الحقل. وقُمع واعتُقل عشرة أشخاصٍ واقتُحمت القرى”.
في الوقت نفسه، تبقى الأرض التي تعمل عليها الشركاتُ مهدّدةً دومًا بخطرِ أن تغمرها المياه في فترات الفيضانات، ما يتسبّب بكوارث بيئيةٍ متكررة.4 ومن أجل تجنّب ذلك، خفّضَت الحكومة حصة المياه للأهوار، مُخضِعةً حقوق الأهواريّين البيئية والثقافية لمصالحها الاقتصادية. ويستغلّ السّاسة العراقيّون وشيوخ العشائر المحلّية النافذين أيّ فرصةٍ سانحةٍ لجني الأرباح، كما أنّ تحويل المياه عن طريق القنوات غير القانونية إلى مزارع الأسماك غير الشرعيّة هو مسبّبٌ آخر لندرة المياه في المنطقة.
من مساحاتٍ غير تابعةٍ للدولة إلى مساحاتٍ خاضعةٍ للاستعمار والدولة
ثمّة استمراريةٌ تاريخيةٌ للقوى المسيطرة على العراق التي تريد استغلال مناطق الأهوار في وسط الفرات اقتصاديًا، بالترافق مع إدارة شؤون السكان والسيطرة عليهم. وبحسب المؤرّخ البيئي فيصل حسين: “لفتراتٍ طويلة من التاريخ المدوّن، كانت الأهوار العراقية بمثابة ‘مساحة خارج نطاق الدولة’، حيث واجهَت الأنظمة السياسية المركزية صعوبةً في فرض سلطةٍ عليها بسبب العوائق الجغرافية”.5 وتدخّل العثمانيون والقوى الاستعمارية البريطانية – بعد نهاية الحرب العالمية الثانية – للسيطرة على المنطقة، خاطّين مسارًا لا تزال آثاره واضحةً حتى يومنا هذا. والأهم من ذلك، طبّقَت القوى السياسية المختلفة التي مرّت على البلاد سياساتٍ استخراجيةً على الأهوار، راغبةً إما في استغلال مواردها المائية بشكلٍ أفضل، أو تجفيفها من أجل استصلاح المزيد من أراضيها الصالحة للزراعة.6
ثمّة استمراريةٌ تاريخيةٌ للقوى المسيطرة على العراق التي تريد استغلال مناطق الأهوار في وسط الفرات اقتصاديًا، بالترافق مع إدارة شؤون السكان والسيطرة عليهم
وأدخلَت القوى الاستعمارية البريطانية تغييراتٍ اجتماعيةً للسيطرة على العراق، ما تسبّب في إفقار قسمٍ كبيرٍ من المزارعين الجنوبيّين، لاسيّما في مناطق الأهوار. نتيجةً لذلك، نزح الآلاف إلى بغداد، غالبًا مع حيواناتهم، وعاشوا في مساكن فقيرةٍ بنوها بأنفسهم، مشكّلين طبقةً حضريةً فقيرةً جديدة،7 ومُحدثين نقطة تحوّلٍ في التاريخ العراقي من موقعهم الجديد. بحسب ما كتبه المحاضِر هوما غوبتا في مقالٍ نُشر في موجز الشرق الأوسط عام 2021: “لقد نظّموا على مرّ العقود الثمانية الماضية بصورةٍ جماعيةٍ حركاتٍ سياسيةً محليةً وجماهيريةً أدّت مطالبُها إلى تحسين الأجور والتخطيط الحضري ومشاريع الإسكان”.8 ويبدو كأنّ التاريخ يعيد نفسه: الأشخاص الذين يفرّون الآن من الأهوار يعودون مرةً أخرى إلى مراكز المدن الضخمة. مثلًا، بين عامَي 2018 و2021 فقط، نزح حوالي 19 ألف شخصٍ بسبب حالات الجفاف.
النزوح الريفي-الحضَري وأزمة السكن في بغداد
بلغَت أزمةُ السكن في بغداد منطقةَ الهلال الأخضر المتبقّي حول المدينة. في يوم النوروز (رأس السنة الفارسية) في 21 مارس/آذار، أطلقَت مروة النعيمي حملةً لنشر بذور المحاصيل وتوعية الناس بقدرة الجميع على زراعة الأغذية. وبالنسبة لها، تتقاطع القضايا البيئية، وإنتاج الغذاء المحلّي، ونموّ سوق العقارات.
وتشرح قائلةً: “اشترى بعض السّاسة أراضٍ زراعيةً واسعةً وحوّلوها إلى مناطق سكنيةٍ أو مجمعاتٍ تجارية. يخشون ألّا يستورد العراق بعد الآن إذا قمنا بتنشيط القطاع الزراعي بطريقةٍ مستدامة. ويخشون أن يحترم الناس بشكلٍ فعليّ المساحات الخضراء. إنّ المساحات الخضراء المتبقّية حول بغداد هي المتنفّس الوحيد للناس. إذا زرع الناس الأشجار وحصدوا الخضار وكسبوا سُبل المعيشة، فسيؤثّر ذلك على جشع السياسيّين لجَني الربح والأموال التي يريدون سحبها من العراقيّين”.
في الوقت الذي يُدمّر فيه الريف العراقيّ، تُصوّر المرأة الريفية العراقية والطبيعة التي تسكنها في المسلسلات التلفزيونية العراقية بصورةٍ رومانسيةٍ وغير واقعية
وتُفاقم هذا التوجّهَ الأرباحُ الطائلةُ العائدة من المشاريع السكنية الجديدة مقارنةً بعائد الزراعة المنخفض. وينجم هذا الانخفاض في قيمة الأراضي الزراعية عن وجهة نظرٍ نيوليبراليةٍ خالصةٍ تجاه الأرض: تقييم قيمتها من منظورٍ اقتصادي بحت، وبالتالي، عدم الاكتفاء بتجاهل أثر تقلّص المساحات الخضراء وما يؤدّي إليه من تضخيمٍ لآثار التغيّر المناخي على سكان بغداد، بل تجاوز ذلك إلى الإمعان في تدمير المساحات التي تحمل الهوية العراقية، كغابات النخيل.
لا تمتصّ أشجار النخيل الطويلة في العراق الكربون بواسطة عملية التمثيل الضوئي وتخزّنه طوال حياة الشجرة فحسب، بل توفّر الغذاء، وتبرّد الجوّ، كما تؤمّن الظلّ للنباتات الأخرى التي تنمو تحتها، وتخفّف من وطأة العواصف الترابية المتزايدة.
وفي الوقت الذي يُدمّر فيه الريف العراقيّ، تُصوّر المرأة الريفية العراقية والطبيعة التي تسكنها في المسلسلات التلفزيونية العراقية9 بصورةٍ رومانسيةٍ وغير واقعية، ما يظهر بوضوحٍ التناقض بين التصوّر الذاتي العراقي من جهة، والممارسات الاستخراجية الاستغلالية من ناحيةٍ أخرى.
الكارثة: إبادةٌ بيئيةٌ وآثارها على العلاقات الجندرية
اعتبر حزب البعث العراقيّ المتحارب مع إيران منذ عام 1980 منطقةَ الأهوار الممتدّة بين إيران والعراق تهديدًا أمنيًا كبيرًا، إذ سمحَت الجغرافيا الإيكولوجيّة للأهوار بالاختفاء السّهل فيها. في ضوء ذلك، أطلق النظام في عام 1983 حملةً واسعة النطاق لترحيل قسمٍ من السكان وقتل آخرين عشوائيًا واعتقال غيرهم.
وفي أعقاب الهجوم وخسارة الجيش العراقي لصالح الكويت، اندلعَت انتفاضةٌ شعبيةٌ جماهيريةٌ في جميع أنحاء البلاد في مارس/آذار من عام 1991، وكان للأهوار دورٌ بارزٌ فيها بسبب حيّزها الاستراتيجي. وجاء ردّ صدام حسين بشنّ حملةٍ ممنهجةٍ ضد الأهوار، وإحراق القرى وتهجير سكانها، وإنشاء بنيةٍ تحتيةٍ هيدروليكيةٍ جديدةٍ تحوّل المياه خارج الأهوار وتسهّل التوسّع العسكري في المنطقة.10 رسميًا، برّرَت الحكومة تلك السياسات آنذاك بكونها تدابير ضروريةً لتحديث الأهوار،11 فاستخدمت المياه المحوّلة لتحسين النظام الزراعي في العراق،12 في حين ادّعت أنّ السدود التركية المبنيّة عكس تيّار المياه هي التي تسبّبَت بالجفاف.13
وفي الوقت نفسه، نظّمَت الحكومة حملةً تصوّر سكان الأهوار على أنهم غير عراقيّين وبدائييّن،14 وشبّهتهم بالقرود،15 ما يُبرز التقاطع بين القمع السياسيّ والسياسات الزراعية في العراق من جهة، والعنصرية من جهةٍ أخرى. جفّت 90% من أراضي الأهوار وأصبح معظم السكان نازحين داخليًا أو لاجئين منفيّين إلى بلدانٍ أخرى، فانخفض عدد سكانها من 500 ألفٍ في الخمسينات إلى 20 ألفٍ في عام 2003.
نظّمَت الحكومة حملةً تصوّر سكان الأهوار على أنهم غير عراقيّين وبدائييّن، وشبّهتهم بالقرود, ما يُبرز التقاطع بين القمع السياسيّ والسياسات الزراعية في العراق من جهة، والعنصرية من جهةٍ أخرى
تشرح شلوڤا ساما، خبيرةٌ اقتصادية سياسية وناشطةٌ في شبكة السيادة الغذائية العراقية “گوئز و نخل” (مزيج من العربية والكردية يعني “أشجار الجوز والنخيل”)، كيف أثّرت تلك السياسات ليس فقط في العلاقات الجندرية، بل أيضًا في تخفيض قيمة الزراعة ككلّ. وتقول: “تمنح الزراعة في الحقول نساءً كثيراتٍ الشعور بالحرية والقدرة على التنقل. وهنّ يعتبرن الزراعة سبيلهنّ للمساهمة في المجتمع. فهي إذًا قيمةٌ في حدّ ذاتها – وفي حال فقَدنها، يُزجّ بهنّ في الحياة المنزلية. أما بالنسبة للرجال، فالأمر ليس بالسهل أيضًا، لكن بإمكانهم تأدية مهامٍ مختلفة جدًا. يؤدي ذلك إذًا إلى بروز ‘نموذج الأسرة التقليدي’ من جديد”.16
لذا شكّلَت إدارة شؤون سكان الريف أيضًا أداةً لتقييد تحرّكات النساء والسيطرة عليها. تشرح ساما قائلةً: “المسألة طبقيّةٌ أيضًا. فالعديد من النساء في قرى ريف كردستان لم يكنّ محجباتٍ حتى سنوات الـ 2000، وكان ذلك بمثابة سمةٍ تسِم نساء الطبقة العامِلة، بينما كان أهل المُدُن يعتبرون الأمرَ غير لائقٍ أخلاقيًا”.
إنّ “الاقتلاع الاجتماعي-الإيكولوجي” المتكرّر – أي فصل الناس عن مواردهم الطبيعية – لا يتسبّب بصدمةٍ عابرةٍ للأجيال فحسب، بل له أيضًا تداعياتٌ عميقةٌ من الناحية الجندرية: فالنساء هنّ من ينقلن المعرفة والمهارات إلى الأجيال القادمة، وذاكرتهنّ الثقافية تضيع ما لم يعُد ممكنًا تشغيلها مجددًا. وفقدان المعرفة يجعل العودة إلى الأرض أمرًا مستحيلًا. بالتالي، تُدمّر العلاقات والشبكات. إلا أنّ ثمّة علاقة قوةٍ أخرى تنبغي الإشارة إليها، إذ إن أكثر من 17% من القوة العاملة في الزراعة من النساء. تؤكد ساما قائلةً: “كما هو الحال في مناطق أخرى، لا تملك النساء سندات مُلكيةٍ ولا أدوات تحكّمٍ بوسائل الإنتاج. لذا، بينما يُنظر إليهنّ على أنهنّ “حاملاتُ الثقافة”، هنّ فعليًا خاضعاتٌ تمامًا”.
إتاحة وسائل الإنتاج للنساء
منذ عام 2003، جرى تحويل العراق إلى “مستودعٍ للمنتجات الغذائية التركية والإيرانية”، ما جعله عرضةً إلى حدٍّ كبيرٍ لتقلّبات أسعار النفط كما شهدنا في بداية جائحة كوفيد-19، ولتقلّبات أسعار الغذاء العالميّة كما رأينا في بداية الغزو الروسيّ لأوكرانيا في عام 2022. وتُعبّر ساما عن نظرتها النقديّة قائلةً: “الاستيراد من دون أيّ تنظيمٍ أو دعمٍ من جانب الدولة17 للزراعات صغيرة النطاق يجعلها غير منتجةٍ من الناحية الرأسمالية”.
كان للنساء حضورٌ قويٌ في الانتفاضة الجماهيرية العراقية في عام 2019، والتي لم تكتفِ بتحدّي الهرَميّات الاجتماعية والجندريّة فحسب، بل طالبَت أيضًا بتغييراتٍ مادّيةٍ واضحةٍ
وعلى الرغم من أنّ الزراعات صغيرة النطاق تُعتبر في العديد من مناطق كردستان ووسط العراق أحدَ عوامل الاكتفاء الذاتي للأُسَر الريفية، وتستمرّ بفضل جهود وعمل الإناث، فإنّها بحدّ ذاتها تُنظّم مساحات القرية ومواقيتها الزمنية، وفقًا للمواسم الزراعية. بناءً عليه، فإنّ هذه العمالة النسائية بمعظمها تُعيد إنتاج حياة القرية بكاملها. وفي سياق حديثها عن القيمة النسوية لإنتاج الغذاء المحلّي وخفاء العمالة النسائية، تشرح ساما قائلةً:” لا يُعترف بالحياة المجتمعية من جانب الدولة والمجتمع، وكذلك من قبل الشركات الزراعية الناشئة حديثًا والباحثين في الاقتصاد السياسي العراقي، نظرًا إلى أنها لا تتناسب مع المنطق الرأسمالي”.18
كان للنساء حضورٌ قويٌ في الانتفاضة الجماهيرية العراقية في عام 2019، والتي لم تكتفِ بتحدّي الهرَميّات الاجتماعية والجندريّة فحسب، بل طالبَت أيضًا بتغييراتٍ مادّيةٍ واضحةٍ من خلال مقاطعة المنتجات الإيرانية والتوجّه إلى استهلاك المزيد من الإنتاج المحلي.
وهذا ما تصوّره أيضًا نشطاء شبكة السيادة الغذائية العراقية “گوئز و نخل” الذين واللواتي يعتبرون الممارسات الزراعية الإيكولوجية جزءًا من النضال من أجل مستقبلٍ عادلٍ لا يمكن تحقيقه إلا بإحلال السيادة الغذائية، وهي قضيّةٌ نسويّة. ويعني ذلك في السياق العراقي إتاحة وسائل الإنتاج للنساء من خلال أنشطةٍ مثل نشاط وفاء حمادي التي تُعيد إحياء المعارف عن تكاثر البذور كبذور الأصناف المفتوحة الملقّحة القديمة، والتي تتّسم بقدرةٍ أكبر على مقاومة تداعيات التغيّر المناخي، كما تجعل المجتمعات الريفيّة أقل اعتمادًا على السوق الرأسماليّة. علاوةً على ذلك، فإنّ الحفاظ على صنوف الخضار والفاكهة العراقية يسمح بإدامة المطبخ العراقي وصونه.
خلق واقعٍ مختلف
بالنسبة لريان مانا، عضو في “صوت الأهواريّين- الشبكة الأهواريّة لحقوق الإنسان”، التماس العدالة يعني القدرة على اتخاذ القرارات من أجل إفادة المجتمع المحلي، لاسيّما في ضوء العواقب الوخيمة للنزوح والتدمير البيئي على النساء. ويشرح مانا قائلًا: “لا نملك القوة لتغيير هذا الواقع. لذا أسّسنا هذا التجمّع لنشكّل حركةً ونُحدث التغيير المنشود. نحن نطرح نظامًا ديمقراطيًا للحكم الذاتي من خلال المجالس أو أشكالٍ أخرى من الحكم المحلي التي تجلب العدالة لكلّ فرد. فشعبنا يستحقّ أن يتجذّر في أرضه لا أن يُهجّر باستمرار”.
التماس العدالة يعني القدرة على اتخاذ القرارات من أجل إفادة المجتمع المحلي، لاسيّما في ضوء العواقب الوخيمة للنزوح والتدمير البيئي على النساء
أما بالنسبة لمروة النعيمي، فالمساهمة في تحقيق واقعٍ بيئي أفضل يُتيح للناس الحصول على غذاءٍ أفضل هو جزءٌ من مفهومها للعدالة. تقول: “أتمنى أن تُستخدَم أرضنا الزراعية في العراق بطريقةٍ صائبة، وأنا أكافح من أجل ذلك. نحن بحاجةٍ إلى استعادة التربة الصالحة. إنّ تناول طعامٍ نظيفٍ والعيش في مجتمعٍ قادرٍ على استخدام موارده الطبيعية هي من أبسط الحقوق. وسيكون ذلك بمثابة حياةٍ عادلةٍ للبشر والطبيعة على حدٍّ سواء”.
يجب تضمين أصوات هؤلاء النشطاء في حركة العدالة المناخية العالمية، كما يجب الالتفات إلى تحليلاتهمن لأسباب التدمير البيئي واستخدامها سرديّاتٍ سياسيّة، مع التخلّي عن وجهة النظر المُفرَغة من السياسة في شأن الواقع المناخيّ في العراق.
لطالما كانت الأهوار حليفًا طبيعيًا في وجه الحكومات العراقية المتعاقبة. ومن خلال الحفاظ عليها، يمكن للأهوار أن تكون الحليف الأهمّ في مواجهة التغيّر المناخي في العراق، والمنطقة الأكبر والعالم.
_________________________________
ملاحظة: تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع مؤسسة هينرش بُل – مكتب الشرق الأوسط. الآراء الواردة هنا تعبر عن رأي المؤلفة، وبالتالي لا تعكس بالضرورة وجهة نظر المؤسسة.