
“ركضنا خايفات بلا حجاب ولا لغة”.. طالبات عراقيات في طهران تحت الصواريخ الإسرائيلية
شمس كامل
19 حزيران 2025
رحلة طالبة في الثامنة عشرة، كانت تحاول فقط النجاة من “الفاينل”، لتجد نفسها تركض للنجاة بروحها وسط القصف الإسرائيلي على طهران.. عن طالبات ركضن “خايفات بلا حجاب ولا لغة”..
أُقلب صفحات المقرّر الدراسي. إنه عامي الأول، وعليّ أن أنجو من هذا المقرّر وامتحاناته، لأعود إلى أمي وأبي، اللذين دفعا دم قلبهما لأكون هنا.
أنظر إلى الساعة: الثالثة والنصف من فجر يوم الجمعة. سكون ثقيل يملأ حي “كيشا” الذي أعيش فيه مع خمس طالبات مستجدات مثلي. ثلاث منّا كنّ ندرس، بينما غطّت اثنتان في نومٍ عميق بعد يوم دراسي شاق.
فجأة، دوّت صفارات إنذار صاخبة من كلّ الجهات، أيقظت النائمات وأربكت المستيقظات. لم نعرف ما الذي يحدث. ظننّاها أصوات حريق، أو زلزال، أو خلل ما. واقترحت إحدى الفتيات أن نجلس في زاوية الغرفة، للاحتماء.
التقطنا هواتفنا، نحاول أن نفهم ما يجري في هذا الفجر المرتبك. صرخت زميلتي: “حننقصف، إسرائيل حتقصـ…” قاطعها صوت انفجار جعل الأرض تهتز تحتنا، هل قصفنا؟ صرختُ.
الذعر والصراخ وصفارات الإنذار مَلأت المكان، واهتزازات لم أتذكر أكانت فعلاً الأرض تهتز من تحتنا أم انها أقدامنا الخائفة من قوة الضربات التي بدأت واحدة تلو الأخرى. السماء تحولت إلى ألوان البرتقالي والأسود والأبيض، كأنها لحظات من يوم القيامة.
من النافذة، علمنا أن الضربة ليست لعمارتنا، بل كانت صاروخاً سقط على برج “ميلاد”، القريب من سكننا.
هرعت لأجلب جواز سفري، صوت أبي في رأسي، “الجواز الجواز، أهم شي الجواز”.
زميلاتي هرعن الى الشارع بما كن يرتدينه، بملابس النوم، إحرام الصلاة، أشكر الله أن وقت الصلاة كان قريبا، لا أريد الموت عارية.
لم نكن نعرف ماذا نفعل، كنا نصرخ فقط مع أصوات الانفجارات، هذه أول مرة نشهد فيها الصواريخ والقصف. تذكرت أبي وكل الحروب التي شهدها وتكلم عنها، تذكرتُ كل ما بثّته الشاشات: هل نصبح نحن الخبر العاجل؟ رقماً جديداً يُضاف على الشاشة وعلى إنستغرام؟ نحن، اللاتي نحمل أحلاماً وقصصاً لم نكتبها بعد؟
فكّرت بأبي الذي خالف العادات وأرسلني إلى هنا لألاحَق حلمي. هل سيندم؟ هل سيأكله الندم إن متُّ؟ عليّ أن أنجو، كي لا يتعرض للوم الأقرباء.
ركضنا بأقدام ترتجف، على سلالم تهتز، إلى الشارع، بلا وجهة.
إيرانيون نبهونا للبقاء في الداخل، وجيراننا من الطابق الأعلى نزلوا إلينا، يحاولون تهدئتنا. كلماتهم لم نفهمها، لكن الطمأنينة وصلت. احتمينا جميعاً في الكراج.
وحين خفّت الضربات، صعدنا إلى الشقة لجلب الشواحن وبعض الاحتياجات.
لكن الطائرات باغتتنا. واحدة، إثنتان، أربعة، أعداد لا تُحصى.
“هل هذه طائرات إسرائيلية؟ هل ستقصفنا الآن؟”
وجوه زميلاتي تحوّلت إلى لون أصفر شاحب، كأن دماءهن بدأت بالنزيف قبل الإصابة. أنا بلا حجاب، نزعته قبل لحظات من الرعب ولا أذكر أين وضعته. وزميلاتي خرجن حافيات.
ركضنا من جديد، بلا حجاب، بلا لغة، إلى الكراج… لكنه لم يعد آمناً. الطائرات تحوم فوق رؤوسنا كذبابات عملاقة، قد تسحقنا في أي لحظة.
مرة أخرى عدنا تائهات لا نعرف ما نفعل، لتسحبنا الجارة الإيرانية الكبيرة في السن التي تسكن الطابق الأرضي لمنزلها الذي كان صوت الراديو يعلو فيه. منزل كأن الزمن فيه توقف منذ ثمانينيات القرن المنصرم.
طمأنتنا أن الطائرات إيرانية. قالت كثيراً، لم نفهم سوى “الله، الله الحافظ”، كرّرتها، كأنها تستدعي الله ليحرسنا. وحين لم تسعفها اللغة، وضعت حبات ملح في كفوفنا، وقدّمت لنا ماءً وحلوى إيرانية، كنتُ أودّ تجربتها في ظروف أخرى.
الملح والماء من السيدة الإيرانية، المصدر: الكاتبة.
نظرت إليها، امرأة مسنّة تلف رأسها بحجاب. ربما عاصرت حرب العراق وإيران. هل تعيد إليها هذه الأصوات ذكريات الحرب؟ هل سرقت الحرب منها من تحب؟ لم تكن خائفة. كانت تبتسم، تردّد الأدعية، ونحن نردّدها معها، نتلو الصلوات والابتهالات. نريد النجاة.
مع إزدياد صوت الضربات، انقطع الإنترنت تماماً بعد أن كان يضعف تدريجياً. شعور مفاجئ: سنموت، ولن يعلم بنا أحد.
أخرجت صورة أبي، كيف أموت دون أن أراه؟ شوقي إليه بدأ يحرق قلبي.
زميلتي بدأت تبكي، “أخاف أموت وأمي تظل طول عمرها ندمانة لأنها جابتني لهنا”.
تذكرتُ الأمهات العراقيات، والآباء الذين ابتلعت الحروب أبناءهم وبناتهم، الذين لم يودعوهم، رحلوا بلا وداع. رأيناهم كثيراً، في نشرات الأخبار، في الجنازات، في صمت صور موشحة بشريط أسود.
نحن، الآتيات من محافظات مختلفة، في كل حي من مدننا نحمل نفس الحكاية في ذاكرة مشتركة، هل نصبح القصة التالية؟
لا شبكة، لا وسيلة لنودّعهم. كتبنا رسائل إلكترونية، لكننا خفنا أن نموت والرسائل عالقة في هواتفنا، لا تصل إلى وجهتها. اقترحت إحدى الفتيات أن نكتب وصايانا.
أخرجنا أوراقاً وأقلاماً، وكتبنا طلبات بالغفران من أهلنا، ومن كل من عرفناهم. أوصينا لمن تذهب ملابسنا، ألعابنا، حاجياتنا الصغيرة.
رجوناهم، لا تحزنوا، لا تندموا. هذا الموت يلاحق العراقيين أينما ذهبوا. كتبنا نسخاً متعددة، لنعطيها لمن قد ينجو قبلنا.
“لا توجد سيارة”
بقينا حتى الساعة الثامنة مساءً في بيت الجدة الإيرانية. كانت تتنقّل بهدوء بين غرف بيتها القديم، تحاول أن تزرع الطمأنينة فينا رغم أن كل شيء من حولها يرتجف. مع كل ضربة، كانت النوافذ الزجاجية تهتز، بعضها يتكسر، وكل شيء في المكان يضطرب: الجدران، الأبواب، أجسادنا، وقلوبنا التي لم يهدأ وجيبها للحظة.
أصبح البيت نفسه مخيفاً. خفنا أن تسقط البناية فوق رؤوسنا، ونصير أشلاء تحت الركام، كما حصل في غزة، أتت تلك المشاهد أمام أعيننا، فقررنا العودة إلى الكراج.
لكن ضوء الكراج صار معطّلاً، لم يشتغل، صار مكاناً مظلماً، وازداد خوفنا.
بحثنا عن مأوى، فعادت خطواتنا المرتبكة إلى بيت الجدة. لم نكن نفهم لغتها، ولا هي تفهمنا، لكننا تواصلنا بالإشارات، والعيون كانت كافية. في تلك اللحظات، لا اللغة تنقذ، ولا المنطق، عولنا فقط على الإنسانية.
مرت ساعات طويلة. بدأ صوت القصف يهدأ. ظننا لوهلة أن كل شيء انتهى. عدنا إلى الشقة بخطوات حذرة، كأننا نطلب الإذن من الجدران ألا تسقط علينا.
لكن الهدوء لم يدم. عاد القصف فجأة، أقسى، أعلى، وكأن السماء فقدت صبرها. انهارت أعصابنا، هذه المرة لم نصرخ، فقط ركضنا.
قررنا أن نغادر، إلى أي مكان. أن ننجو.
حاولنا الاتصال بسائقين، نرجوهم أن ينقلونا إلى الحدود، نتوسل أو حتى إلى حي آخر في طهران، أي مكان بعيد عن هذه السماء التي تصرخ فوق رؤوسنا.
لكن لا أحد يجيب. متعذرين بـ”لا وقود، الطريق غير آمن، لن نتمكن من التحرك، سنقصف”.
حاولنا أن لا نبكي لكي لا ننهار، علينا النجاة. نزلنا مجدداً إلى الكراج. صار مأوانا الوحيد، رغم برودته وظلامه.
اتصلنا بأحد المسؤولين عن الطلبة. أخبرنا عن وجود ملجأ تحت الأرض، قد يكون أكثر أماناً، نستطيع الذهاب اليه غداً.
لم نناقشه، لم نطلب تفاصيل، نريد العنوان والنجاة.
حاولنا العودة للشقة مرة أخيرة، لكن كنا قد اضعنا المفتاح وسط جلبة الضربات، حاولنا فتحه بسكين وأدوات أخرى، لكن أيدينا التي كانت ترتجف وكل من حاول من الجيران لم يفلح.
لقد خسرنا شقتنا، ولن نستطيع الوصول لأشيائنا.
تفاهمنا بالإشارات، أعطتني الجدة الإيرانية غطاء رأس وجاكيت أغطي به ملابس البيت التي كنت ارتديها، وبتنا عندها.
“السفر بين الصواريخ”
بعد ليلة من الصواريخ والانقطاع عن العالم، هدأ الوضع قليلاً في اليوم التالي، فاستقللنا سيارة أجرة قديمة وتوجهنا نحو الملجأ.
ودعتنا الجدة بكلمات وصلوات لا نفهمها، وربما دموع أخفتها تحت شالها، كانت خائفة بحقٍّ علينا.
حملنا حقيبة كنا قد جهّزناها مسبقاً، فيها بعض الطعام المعلّب، والمستمسكات الرسمية، وقطع من الملابس الداخلية.
أنظر إلى شوارع طهران، الناس فوق رؤوسهم دخان وأتربة الأنقاض، أماكن مقصوفة ومحترقة، رجال ونساء من الدفاع المدني، وسيارات إسعاف.
في مثل هذا الوقت، تكون الشوارع عادةً خالية، كلٌّ منشغلٌ في عمله، أما الآن فالجميع يقف في طوابير طويلة لشراء الخبز والغاز.
مشاهد ربما شاهدها أبي أو إخوتي الأكبر سنّاً مئة مرة في الوطن. تغالبني الدموع. أشتاق لأبي. أعلم أنه سيجنّ من فرط تفكيره.
وصلنا الملجأ، كان بيتاً تحت الأرض، قبواً. استقبلتنا طالبات ماجستير عراقيات، قلن “الثلاجة كلها كدامكم، وملابسنا وغراضنا”.
نساء أكبر منا، من أجيال مختلفة، حتماً قد شهدن جميع الحروب العراقية، كنّ كريمات ولطيفات معنا، وحين عرفن أعمارنا، أخذن دور الأمهات.
حصلنا على الإنترنت بعد يومٍ ونصف. آلاف الرسائل كانت تنتظرني، من عائلتي، ومن صديقات وقريبات. رددتُ برسالة واحدة فقط: “ما متت”.