مقالات

الصراع على قانون الأحوال الشخصية في العراق

لمى قنوت

تتحول الثغرات الدستورية والنصوص الملغومة في الدساتير، بالإضافة إلى تناقض النصوص في الدستور نفسه، إلى فرص ذهبية للانقضاض على حقوق النساء بتنوعاتهن لتجردهن من كرامتهن ووكالتهن على حيواتهن وأجسادهن والاستزادة من قوننة العنف ضدهن، وما قرار تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق الذي تم إدراجه في جدول أعمال جلسات مجلس النواب، في 4 من آب الحالي، إلا فصل من الفصول الكارثية التي يتحالف فيها انتهازيو حراس الفضيلة، من بعض فقهاء يفتون باسم المقدس وأحزاب وقادة ميليشيا تمارس السياسة والتشريع وأحزاب تساوم على الحريات والحقوق، وتعتبر النساء والطفلات وبضمنهن الرضيعات وعاء للإنجاب وأداة للذة الجنسية.

والصراع ضد وعلى قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي وحد أحكام المذاهب الفقهية هو صراع قديم، فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، أصدر مجلس الحكم المُعيّن من بول بريمر في عام 2003 القرار رقم 137، وينص على إلغاء القانون وإعادة العمل في القضاء المذهبي، وبعد اعتراضات واسعة تم إلغاء القرار في عام 2004.

ومع إقرار الدستور الجديد في عام 2005، في ظل الاحتلال، أثارت المادة الملغومة رقم 41، التي تنص على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم وينظم ذلك بقانون”، اعتراضات العديد من منظمات المجتمع المدني، ونظمت حملة في عام 2006 لإدراجها من ضمن المواد الخلافية في اللجنة البرلمانية لتعديل الدستور، وأوقف العمل بهذه المادة، لكنها، وفي الوقت نفسه، أتاحت للمتربصين، فيما بعد، سندًا دستوريًا للمطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية.

وخلال تلك الفترة التي ارتكبت فيها القوات الأمريكية جرائم وانتهاكات في العراق، وتراجعت سلطة القانون، ازدادت الفتاوى الدينية، وانتشرت حالات عدم تسجيل عقود الزواج والالتفاف على قانون الأحوال الشخصية الذي يمنع عقد الزواج خارج المحكمة وفق المادة العاشرة من القانون، وبالتالي لم يعد التقرير الطبي الذي يؤيد سلامة الزوجين من الأمراض السارية والوثائق التي يشترطها القانون ملزمة. وازدادت حالات الزواج المؤقت بناء على بعض الفتاوي الدينية، وازداد تزويج الطفلات دون سن 15 عامًا خارج المحكمة، وأصبح عقد الزواج يسجل فيها عندما تصبح الفتاة في العمر الذي يشترطه القانون 18 سنة، أو في العمر الذي يقره القاضي لمن بلغت 15 سنة، مع دفع غرامة بسيطة، وأصبحت بعض العشائر لا تعترف بطلاق المرأة إن حصل من خلال المحكمة، وازدادت نسبة الطلاق التعسفي.

في منتصف 2013، قدم وزير العدل، حسن الشمري، مشروعين مرتبطين مع بعضهما البعض، قانون الأحوال الشخصية الجعفري وقانون القضاء الشرعي الجعفري، إلى الحكومة، وبدورها أحالتهما إلى مجلس النواب، لكنهما جمدا بسبب سيطرة “داعش” على الموصل وارتكابها جرائم وحشية.

لم يكن طرح الشمري بعيدًا عن الغايات الانتخابية لحزبه، حزب “الفضيلة” وزعيمه الروحي محمد موسى اليعقوبي الذي شكل ميليشيا متخصصة بالآثار والنفط واستباح المال العام بالفتاوى. وحزب “الفضيلة” هو جزء من “الإطار التنسيقي”، الذي استند إلى المادة 41 من الدستور من أجل تعديل قانون الأحوال الشخصية وفق الفقه الشيعي الجعفري لإخضاع النساء والطفلات لمحاكم وتفسيرات متعددة حتى في المذهب الجعفري نفسه، والذي أدى إلى ترسيخ الطائفية، والتمييز بين النساء بناء على الدين والمذهب والمعتقد، وإحكام قبضة سلطة الفقهاء وفتاواهم المختلفة على المجتمع.

يطالب “الإطار التنسيقي” إضافة صبغة إسلامية بأبعاد مذهبية على مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية، وحصر حرية اختيار المذهب لتنظيم أحواله الشخصية في الزواج المختلط للرجل دون المرأة، وطالب بتقسيم مدونة الأحكام الشرعية إلى بابين، الأول طبقًا للفقه السني، والثاني طبقًا للفقه الشيعي الجعفري، ويعتمد في وضعها على الرأي المشهور عند كل مذهب، وفي حال تعذر في الفقه الشيعي الجعفري، يعتمد المجلس العلمي الرأي الذي يرجع إليه في “التقليد أكثر الشيعة في العراق من فقهاء النجف”.

ومع تعدد فتاوى المرجعيات الشيعية يتم فرض فتاوى وأحكام ظلامية تنعكس أذى وعنفًا على النساء والطفلات بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام، مثل: “لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دوامًا كان النكاح أو منقطعًا، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتقبيل والضم والتفخيذ فلا بأس بها، ولو وطئها قبل إكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى…”، و”لو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية، ولكن الأحوط وجوب الإنفاق عليها كما لو كان الإفضاء قبل إكمال التسع، ولو أفضى غير الزوجة بزناء أو غيره تثبت الدية، ولكن لا إشكال في عدم ثبوت الحرمة الأبدية وعدم وجوب الإنفاق عليها…”. ومثل هذه الفتاوى، تفتح شهية الإفتاء عند الجميع لقوننة وتشريع التحرش بالطفلات واغتصابهن وتغييب شرط موافقة النساء المستنيرة في حيواتهن وعلاقاتهن.

وضم تعديل القانون الذي يطالب به “الإطار التنسيقي” إلغاء نص الفقرة رقم 5 من المادة رقم 10 التي تحدد الشروط المطلوبة عند تسجيل عقد الزواج في المحكمة، والتي تنص على معاقبة كل رجل عقد زواجه خارج المحكمة “بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد على سنة، أو بغرامة لا تقل عن 300 دينار، ولا تزيد على ألف دينار”، “وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على خمس سنوات، إذا عقد خارج المحكمة زواجًا آخر مع قيام الزوجية”، وطالب “الإطار التنسيقي” باستبدال هذه الفقرة بـأن “تصدق محكمة الأحوال الشخصية عقود الزواج التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين السني والشيعي…”، وبالتالي هذه الـ”أو” ستكون لها أبعاد قانونية واجتماعية واقتصادية ونفسية بالغة الأذى، وستخضع النساء والفتيات لتفسيرات دينية مختلفة وتأويلات وفتاوى متباينة، وتحرمهن من حقوقهن في جميع المجالات، بدل أن تسير التعديلات نحو إقرار قانون أسرة حديث يكرس العدالة الجندرية وبضمنها العدالة الإنجابية.

تحالف 188 في مواجهة التعديل

وفي مواجهة تعديل قانون الأحوال الشخصية وإدراج التصويت عليه في مجلس النواب يقف تحالف 188 للدفاع عن قانون الأحوال الشخصية النافذ. ويضم التحالف مجموعة من ممثلات الحراك النسوي ومنظمات المجتمع المدني وممثلي عدد من القوى السياسية وشخصيات قانونية وأكاديمية وبرلمانية ودينية، يرفضون الاتكاء على المادة 41 في الدستور لأنها تعطل مواد دستورية أخرى، كالمادة رقم 2 في الفقرتين “ب” و “ج” اللتين نصتا على عدم تشريع قوانين تتعارض مع الديمقراطية والحقوق والحريات الواردة في الدستور، وتتعارض أيضًا مع المادة رقم 14 التي تنص على المساواة أمام القانون، وهذا التناقض في النصوص الدستورية موجود في أغلب الدساتير في المنطقة، وهو فخ يجب التنبه إليه من قبل واضعي الدستور، نساء ورجالًا.

تخوض العراقيات نضالًا ضد هذا التعديل، وتعلو أصواتهن، ويرفعن لافتات ضد تزويج القاصرات، والعبودية، وتسليع النساء والطفلات، والحرمان من الميراث والحضانة وغيرها من الحقوق، ويتم أحيانًا منعهن من التظاهر، ففي النجف مثلًا، يحاول حراس البنية البطريركية منعهن من هذا الحق بدعوى أنهن نساء.

“الإطار التنسيقي”

يقف “الإطار التنسيقي” وراء تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، وهو ائتلاف سياسي ميليشياوي شيعي، حليف لإيران ولـ”الحشد الشعبي” المرتبط بها، تَشَكَل في تشرين الأول عام 2021، ويضم عددًا من الكتل السياسية، مثل، “ائتلاف دولة القانون” برئاسة نوري المالكي، وقادة ميليشيا مثل “تحالف الفتح” بقيادة هادي العامري الذي يحمل الجنسية العراقية والإيرانية، وقَاتَل إلى جانب إيران في حربها ضد العراق، وعُيّن رئيسًا لهيئة أركان 9 بدر في عام 1997، ثم أصبح قائدًا له، وفي عام 2002، أصبح العامري قائدًا لقيادة فيلق بدر، وهو الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق وقرار الحاكم بول بريمر بحل الميليشيات، تحول فيلق بدر إلى منظمة بدر كحزب سياسي غير مسلح في عام 2004، وأصبح العامري أمينًا عامًا للحزب، ثم تفرغ  للعمل العسكري الميداني كقائد لكتائب الحشد الشعبي، ومنذ حزيران 2014، أي بعد تشكيل “الحشد” بشهرين ونصف تقريبًا، وثقت، على سبيل المثال، منظمة العفو الدولية العديد من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها “الحشد” في العديد من المحافظات العراقية، كإعدامات خارج نطاق القضاء وقتل وتعذيب واختطاف آلاف الرجال والصبيان.

ويضم “الإطار التنسيقي” حركة عطاء، التي أسسها رئيس “هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض في عام 2017 كحركة سياسية أعلنت التزامها بتوصيات المرجعية الدينية، وتضم زعماء “الحشد الشعبي” وأحزابهم ورجال دين شيعة. ويضم أيضًا حزب “الفضيلة” الذي استولى زعيمه الروحي محمد موسى اليعقوبي على العديد من المواني العراقية، وشارك مع عدد من التكتلات السياسية في نهب المال العام وإفقار الشعب العراقي.

وبالطبع لم يكن تمرير تعديل القانون على جدول أعمال مجلس النواب بشكل مفاجئ دون صفقة مع بعض الأحزاب السنية التي ترغب في تمرير قانون العفو العام لإطلاق سراح العديد من المعتقلين الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم وفق قانون الإرهاب بأسلوب عشوائي، كما تشير “هيومن رايتس ووتش”، وهي مقايضات ومساومات أصبحت سمة تلازم بنية السلطة في العراق، وأحزاب تعيش على الصفقات والمصالح الفئوية.

لمى قنوت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى