مساحة نملة – ماسة الرمادي
في إحدى الليالي الباردة من شهر ديسمبر من عام1988 م، طرقت سيدة في الخمسينات من عمرها الباب، حيث كانت الدماء تسيل من رأسها،
وتغطي الكدمات وجهها، ويخرج منها صوت اشبه بالعواء، كانت تبكي بشكلٍ غريب وكأنها لم تبك في حياتها. وبعد محاولات عدة لتهدئتها
أدركنا بأنها هاربة من منزلها جريًا على الأقدام من نهاية الجزيرة ريف الأنبار/غرب العراق حتى وصلت إلى منزل عائلتي الذي نذهب اليه في العطل.
مازادنا غرابة ونحن ننظر إليها مالذي جعل امرأة بعمرها تهرب كل هذه المسافة في هذا البرد القارص؟
كنت مندهشة وأنا أستمع لصديقتي التي شهدت هذا الحدث في صغرها وهي تقصّه علي لأكتشف بالنهاية بأن هروبها كان بعد تعرضها للضرب المبرح
لأنها لم توافق على قرار زوجها من امراة ثانية، بل أن كل من يعرفها لامها على تصرفها الوقح والمليء بالجحود ونكران المعروف،
فأن زواج فتاة ذات بشرة داكنة التي تمكنت منها عنصرية الإقطاعيين عبر تصديرهم للعرب والريف منهم بشكل خاص قالب المرأة الجميلة
التي لابد أن تكون ذات بشرة فاتحة وإذا كانت محظوظة تكون بيضاء، فالزواج من الأولى هو كرم ومعروف من الزوج له، أما الثانية فهي مكافئة له على معروفه الأول.
تعدد الزوجات في العراق بمختلف أسبابه وبكافة الأعذار المشروعة بمباركة الدين والتي كانت مشكلته الدائمة مع معتنقيه بأنهم يطبقون الأحكام التي تخص النساء بمزاجية ولامبالاة،
او قسوة مميتة، الأمر الذي مازال حتى اليوم يسبب جدلًا وتدليسًا صريحًا لواقع أن التعدد يهين النساء ولا أتى من تطبيقه سوى مرغ كرامتهن ومشاعرهن في الوحل.
وأنتاج أجيال تعاني من القهر والتشتت وعدم إحترام النساء. والدليل بأنه لا يوجد حتى يومنا هذا أي أحصائية دقيقة او عشوائية او تقرير وملف يتعامل مع موضوع تعدد الزوجات بجدية،
او النظر إلى هذا الحكم على إنه اداة صريحة لبطش الظلم الذي يسببه التراث والقبيلة للمرأة الريفية والحضرية.
هناك أحصائية من وزارة التخطيط في العراق لعام 2018 تنبه بأن ناقوس الخطر في الريف قد بلغ أشده.
حيث تصل نسبة الأمية والبطالة للنساء في المناطق الريفية وبشكل خاص في الأنبار لنسبة تتجاوز الخمسة والستون بالمئة.
أن الوضع الذي يسوده التخلف والتردي في حقوق أفراده لم يشمل المرأة فقط بل جميع فئات هذا المجتمع المغمور في تقديس جهله،
ولكن التاريخ يستمر بتعليم البشرية هذا الدرس، وهو بأن الأذى الذي يقع على مجتمعٍ ما يصبح عملاق حين يصل إلى المرأة ويتعملق أكثر حين تكون بشرتها غامقة.
تذكّرني نملة التي يبدو أنها أخذت نصيبها الكامل من اسمها، والتي كانت تُشيّد مملكة على ظهرها ليست لها، لأنها امرأة ريفية سمراء فعليها أن لا تتجاوز مساحتها كنملة،
وكما قالت أحداهن”في دول العبيد النساء عبيد العبيد”. فمثلأ في الأنبار عادت المرأة الريفية بعد حرب داعش 2017م خالية الوفاض فلا حرف تعرف تكتبه ولا منزل جدرانه واقفة ولا أرض تحملها هي وأطفالها،
فأن الأراضي التي تركوها وهي مزروعة بالطماطم والخيار عادوا ليجدوا الحصاد الغام وعبوات تلتهم كل من يطئ قدمه عليها.
عادت المرأة التي أخترعت الزراعة سابقًا وبقيت صديقة لها كما تقول الميثولوجيا عن لسان دكتور خزعل الماجدي،
لكي تجد بأن بداية حضارة بلاد مابين النهرين تنتهي أمام عينيها، بأراضي بدل أن تحتضن الزهور، باتت تنبت الموت.
في العراق زحف الريف إلى المدينة ولكن المدينة لم تزحف إلى الريف.
وأصوات التقدمية والمدنية لم تصل إليهم ولم يقدم أحد يوما على شراء مساحة أوسع لنملة في بيتها ولم تتسلل فكرة بأن لونها لم يكن ذنبًا بل كان يمثل كينونتها،
ولم يمنع أحد زواجها في العاشرة من العمر ولم يساند أحد نملة حين أستخدمت حقها في أن تعترض على هتك كرامتها في الخمسين او أن تدافع عن مخزونها للشتاء من أن تأكله شفاه وردية.
ماتت نملة وهي لم تشف من الكدمات وجرح رأسها في تلك الليلة فكانت آخر ماتذكّرته بعد أن تمكن منها الزهايمر هي تلك الجروح لا غير،
وبقيت تردد سؤال” ليش أني سودة؟”
ربما لم تتألم نمله ومثيلاتها بهذه الرقع المظلمة من فكرة الزواج عليهن بقدر ألمهن من تغييبهن عن معرفة السبب الحقيقي او الحصول على أجوبة اسألتِهن التي تبدأ بـ ليش”