في المرآة : المعنف اضعف مما يبدو
في المرآة : المعنف اضعف مما يبدو
منال حميد غانم
في الوقت الذي تسجل فيه وزارة الداخلية مايقرب من ال15 الف حالة عنف خلال سنة 2021 اغلبها ضد نساء وهذا الرقم لا يمثل العدد الحقيقي ولا التقريبي حتى, لان اغلب حالات العنف يجري التكتم عليها اتقاءا للأساءة او الوصمة المجتمعية فهذا الرقم يمثل رأس جبل الجليد لاغير, فأن اخبار من قبيل امرأة عنفت زوجها وضربته ضربا مبرحا او امرأة قتلت زوجها ومثلت بجثته يتصاعد تفاعل المجتمع حولها وهي حالات عنفية لا تتجاوز العشرات بين اعداد الملايين من النساء المعنفات .
هذه الطريقة في التعامل المزدوج عند الحكم على الحالتين اللتين تظهران تصرف عنفي غير حضاري وتعطي رسالة عن تغيب القانون واللجوء الى القوة البدنية في فض الخلافات تخبرنا بحل اشكالية ظاهرة العنف بطريقة ضمنية . فعلى الرغم من مرور العديد من الاخبار التي تحمل صورا لوجوه تتبعثر عليها الخدوش والكدمات فأن خبرا لايحمل صورة حتى عن رجل معنف هي من تأخذ حيزا من أهتمام الناس وتثير فضولهم لمعرفة تفاصيل الخبر لكي يستنكروا مرة ولكي يسخروا مرة اخرى .
وهنا يقفز امام اذهاننا عند التحليل مفهوم ( التوقعات ) فما هو متوقع من النساء عند مواجهة العنف هو القبول به وعدم المقاومة والعيش كضحية لأطول فترة ممكنة والغطس بحالة نفسية سيئة . وماهو متوقع من الرجل انه هو من يعنف واذا تعرض لأذى فرد فعله هو المقاومة والثأر لكرامته وانتزاع مركز القوة الذي تعرض لمحاولة سلب . وهذا النوع من الاخبار يحدث صدعا في نظام التوقعات هذا فالرجل هنا هو الضعيف وهو من يطلب اغاثة السلطة والمجتمع لا المرأة . ومن غير المتوقع ان النساء تعامل بالمثل عند تعرضها للعنف او ان تقاوم, فالمعروف انها تهرب من البيت او تستقيل من العمل اذا واجهت عنفا او تختبئ وتنعزل عن العالم اذا اغتصبت او هتك عرضها .
فالطبيعة الحيوانية للبشر( نساء/ رجال ) تفرض عليهم اخضاع اي اخر ضعيف امامهم سواء كان طفل , حيوان ,رجل , امرأة وبغض النظر عن نوع الضعف فأن القوة تتمظهر بعدة جوانب , اقتصادية كالغني الذي يستضعف العاملين لديه ويكيل عليهم المهام ويسلب راحتهم وكرامتهم مقابل مال يبقيهم احياء . او اجتماعية كصاحب النفوذ في السلطة او المكانة المجتمعية كرئيس قبيلة او شخص ذو مكانة بين قومه فيستضعف من هم بحاجة اليه , او سياسية فبحكم مركز قوته وتملكه للسلاح والاعلام والمنابر يستضعف الاخرين ويقصيهم, او يصفيهم جسديا ككائنات بلا اي جدوى خلقت . او مادية فكبر حجم جسم الام وغلظة صوتها سبب في تعنيفها لطفلها الذي سكب الماء على السجادة لكنها لا تعنف مديرها الذي اهانها امام كادر العمل مثلا . او كصديق يمشي مع صديقه واثناء حديثهما يفرث تحت قدميه فراشة اونملة ليقرروا بعد استراحتهما قضاء عطلة نهاية الاسبوع في صيد الغزلان البرية لا لأكلها بل للأحتفال بقوتهما على كائن ضعيف يعيش في عالمه الخاص ولم يكترث او يمجد قوتهما يوما, بل ابدى المزيد من الذعر والهروب عند حضورهما امامه فزادتهما نشوة .
ان الامل في اخبار تعنيف الرجال هو رفض النساء لأن يظهرن الخوف و الفزع من بنية جسم الرجل ليشرعن بالمواجهة وتحمل النتائج , لدرجة افزعت الاخرين وجعلتهم يتوخوا الحذر في معاملة النساء مستقبلا حسب رأي بعض المتفاعلين كي لا يواجهوا المصير نفسه . فتربية النساء على انهن ضعيفات تطلبت الكثير من الجهد “الابداعي” والوقت لكي يعتقدن بشكل جازم انهن حبيسات بنيتهن او كما قالها فرويد ( التشريح هو القدر ) اي قدرهن ان يكن ذوات بنية ضعيفة ويجب ان يخضعن تبعا لذلك للرجال خوفا من قوتهم. واخبرهن المجتمع ان الطريقة التي يتملكن بها قلب الرجل هي “الرقة “وافهمهن انها مرادف كلمة ضعف او تزييف الضعف تبعا لمقولة ( قوة المرأة ضعفها ) حتى تم اغراقهن بالمازوخية ووصلنا الى ابتداع امثال شعبية من قبيل ضرب الحبيب مثل اكل الزبيب . وترسيخ مفهوم ان القوة المسموح للنساء تملكها هي القوة الروحية او قوة الشخصية لا غير .
ليدخلن بعدها معهم في علاقات “التسليم التام ” التي تتمظهر بجمل مثل ( انت اختر لي , العالم كغابة والرجال فيه وحوش انت تعرف اكثر , انت قرر وانا معك ) لتتكون بعدها صورة كاملة من الهشاشة تنهار امام اول صوت صراخ لأن الطعام قد احترق او جاروبا اتسخ ولم تهرع لغسله .
وتبدأ رحلة ” الغفران المرضي ” اذا اظهرالرجل عنفا بحجة انه يواجه ضغوطات في العمل او انه طيب لكن عصبي وتتناسى ان جوهر الانسان لايظهر الا بلحظات الازمة لا الرخاء .
فيتحولن الى نساء تجنبيات صامتات يسهل اسكاتهن برمشة عين مختلفة او نبرة صوت مميزة بين الحضور تعني ان الحديث يجب ان يتوقف او لتذكرها بقائمة الممنوعات التي يحظر الكلام فيها او عنها ,تحمل بين طياتها تهديدا بالاساءة الجسدية اذا لم تلتزم الطاعة .
وفي ظل دولة سحبت يدها عن حماية مواطناتها بتوفير خطوط ساخنة لمواجهة حالات العنف يمكن الاتصال عليها, او توفير مركز طفولة وامومة يمكن الاعتماد عليه, او ملاجىء للنساء لتخليصهن من المعنفين او تخليص المجتمع منهم عبر محاكمتهم بشكل مستعجل وانسيابي, او توفير قانون لمناهضة العنف, فأن الحلول التي يمكن اللجوء اليها لمقاومة العنف ليست كثيرة وليست سهلة على الكثيرات وتشعر النساء بأنهن بالفعل في غابة ووحوشها الدائرة الاقرب اليهن من اباء او ازواج او اخوان او حتى ابناء .
نحتاج الى الايمان بأن النساء لسن ضعيفات بل “مستضعفات” وان مايخيف الرجال ليست قوة اجساد النساء بقدر خوفهم من تهديد المكانة اذا قررت احداهن صد التعرض بقوة مماثلة . فمجرد الشروع بالمقاومة هو سبب لتراجعه فأستخدامها لأي سلاح على مقربة منها هو مؤشر بأن سلطته قابلة للسلب ويستحسن ان يرجع الى طاولة المفاوضات وتجعله يتردد في ابداء اي سلوك عنفي مستقبلا . وفي خزين ذاكرتنا الكثير من هذه التجارب النسوية حول هذا الامر .
وان تهويل حياة مابعد الانفصال ودخول النساء المطلقات الى حلبة مصارعة مجتمعية واثارة الشكوك حول شرفها ماهي الا وسيلة يستخدمها الرجال او ذوي الثقافة الذكورية لكي لاتلجأ النساء الى خيار نبذهم او نكثهم عن كاهلهن وتدفيعهم ثمنه . وربط مفهوم ضياع الاطفال وانفلات تربيتهم اذا كانت الام هي من تربي وحدها , ليس الا محض تخويف ممنهج ووهم للعيش ضمن دائرة العنف فيتربون الاطفال اما معنفين كآبائهم او متقبلين للعنف الواقع عليهم من شركائهم .
وقبول مفاهيم من قبيل ان النساء قادرة على تغيير الرجل بالحب والمودة وجملة الكلام المعسول ماهو الا استنزاف لطاقاتهن وهدرها. فمن يملك سجل عنفي مع اخواته او زوجته السابقة او مع والدته لن يتحول الى حمل وديع بمجرد الزواج او تبدل نمط الحياة . ومن يعاقر الخمر اوالمخدرات مكانه المصحات واروقة العيادات النفسية لا ان تتحمل عنفه وتقلباته عائلة لاذنب لها بخياراته .
فتدريب النفس على المقاومة ولفظ كلمة ( لا ) ليس بالامر اليسير ولكنه يفتح باب من الحرية والراحة كنا نعتقد بأنه موصد الى الابد . فرفض كل امر مخالف لمبدأ ما او مهين للكرامة هو البداية التي تجعل المعنف يدرك صعوبة مايخوضه وانه ليس بالسهل امر الاخضاع , فالعنف سلوك انساني لا يعتمد بأن الطرف المقابل امرأة او طفل او حيوان او حتى رجل اخر بل مناطه هو ( الضعف ) فمن كان ضعيفا يطرح خارجا .
الاهتمام باللياقة البدنية و عدم القبول بالعنف سواء كان اساءة لفظية او ايذاء مادي او جنسي او عنف اقتصادي هو بداية المقاومة وعدم البوح بما تعرضت له المرأة من سجل عنف سابق امام الشريك هو وسيلة دفاعية لكي لايستضعفها هو ايضا تحت يافطة ( لست انا الوحيد وليست اول مرة ) وقد يرى ان اخذ مستحقاتها المالية افضل من حرمانها من الخروج كما كان يفعل اخوتها, او ان يظن اخوتها بأن عنف الحرمان من الخروج هو افضل من العنف الجسدي الذي كان يمارسه والدهم عليها .
فمن نتوهم انهم اقوياء ولن نستطيع مواجهتم فالحقيقة تثبت انهم اقوياء لان من يحيط بهم ضعفاء لا اكثر .